بعيدا عن الأحكام التعميمية الشاملة نقول إن الكثير من قطاعاتنا تحتاج إلى إعادة نظر في تغيير بعض طواقمها الوظيفية، وهيكلتها وأيضا إعادة تغيير بعض أعضائها وبعض مديريها، ورؤساء أقسامها حتى تستطيع السير بعد طول كساح دام سنين طويلة، لأنها ولدت في مناخ السياقات التاريخية القديمة بما تحمل من محسوبية وتلاعب مالي وإداري ووفق معايير محكومة بحال الطورائ السابقة. وليس هذا نوعا من التجني فالصحافة البحرينية ذاتها في كل يوم تكشف لنا تلاعبا وسرقات مالية ضخمة، عقيد هارب إلى دولة آسيوية وآخر إلى عربية. ومحطة ذهبت أموالها مع الريح مع مسئول سابق والناس نيام، وأخرى دشنت وهي تعاني الشيخوخة وتزوير للعملة المحلية ومسئول يطرد من وزارة (على حد قول النائب رئيس لجنة الرقابة المالية والإدارية) ليرى نفسه مسئولا في وزارة أخرى بسبب صلة القربى لدى الوزير... كل ذلك ظهر في فترة قصيرة وما ظهر على السطح هو بفضل عدة أمور منها إلغاء قانون أمن الدولة وعودة الحرية، تأسيس مشروع الإصلاح الذي تم بدعم كل الرجالات الوطنية المخلصة في هذا البلد. فالحرية تكشف لك كل السلبيات والإيجابيات.
لكن ما ظهر على السطح من فساد لدى الرأي العام يدل على ان هناك فسادا يجب محاربته وفضحه عبر الصحافة كما وانه مؤشر واضح على ان الفساد المالي والإداري نال أكثر المؤسسات الوطنية وان أفضل خطوة قامت بها الدولة ما قبل البرلمان انها عمدت إلى إنشاء لجنة الرقابة المالية والإدارية لرصد جميع التلاعبات في الوزارات وإنشاء مثل هذه اللجنة يدل على ان الدولة هي أول من فتحت النار على الفساد وهي أول من فتحت الأعين على ذلك الفساد المتراكم طيلة هذه السنين وهي بهذه الخطوة أعطتنا - نحن الكتاب - الضوء الأخضر لملاحقة الفساد ونشر غسيله في الصحافة والندوات والملتقيات الثقافية. ولقد قامت - مشكورة - لجنة الرقابة المالية بمناقشة مثل هذه الملفات وبالبحث عن مظاهر الفساد في أكثر من وزارة وإدارة غير انها استثنت بعض الوزارات والإدارات.
أعني بذلك إدارة الأوقاف الجعفرية فهي إدارة على رغم نزاهة بعض مسئوليها إلا انها تحتاج إلى لجنة بحث وتقصي لما يدور في داخلها. لست هنا في مقام الاتهام ولكن في مقام البحث عن الحقيقة وعن صحة ما يصلني من قضايا تشيّب الرأس وتخرج الفطن من فطنته، ورحت أسائل نفسي: أيعقل أن يكون كل ذلك في إدارة وقفية أمنت على أموال يتامى وقصر ومساجد ومآتم؟!!
ما زاد في هواجسي هي بعض الأوراق التي تسربت إلى الصحافة من قبيل عدم تسجيل مئات من العقارات الوقفية في وزارة العدل. إذ مازال الكثير منها معلقا في الهواء مما يساعد على إمكان صيد البعض من هذه العقارات أو ضياعها أو تكون عرضة لأي سطو ولو مستقبليا. ثم الإعلان عن ذلك في الصحافة مما ساعد على بروز ذات الاشكالية القديمة الجديدة على هذه الدائرة التي تعتبر من أكبر الدوائر الوقفية التي تمتلك الملايين والمخزون المالي الكبير والذي بإمكانه - لو استثمر بطريقة علمية - ان يستوعب الكثير من المشروعات العلمية والاجتماعية الملحة لدى قطاع كبير من الشعب.
ومازال هناك تساؤل عالق في أذهان الكثير من المراقبين ما السبب الكامن وراء عدم موافقة وزارة العدل تسجيل العقارات التابعة لهذه الإدارة؟.
كما يأتي هذا التساؤل أيضا في سياق الدعوة القضائية التي رفعتها الإدارة ذاتها (إدارة الأوقاف الجعفرية) على العقيد الهارب عادل فليفل والذي أكد فيها مدير إدارة الأوقاف الجعفرية (حبيب مكي) ان الإدارة رفعت دعوى قضائية ضد العقيد فليفل مطالبة إياه بسداد 4600 دينار مستحقة للإدارة. إذ تخلف المدعو ولمدة عامين كاملين عن سداد الإيجار الخاص (بأرضين) احداهما تخص جمعية التوعية ومساحتها 4715 مترا مربعا والأخرى مساحتها 1929 مترا مربعا وتخص مأتم قرية المرخ، إذ قام المدعو بجرف التربة لهذه الأراضي.
وقال مكي أيضا - وهنا مربط الفرس - «إن الإدارة السابقة للأوقاف الجعفرية أبرمت عقدا مع العقيد الهارب في 7 مايو/ آيار 1994م لمدة عشرين سنة (...) يبدأ سريانه ابتداء من الأول من يوليو/ تموز 1994 وحتى 2014 بهدف «الاستثمار في البناء» إلا ان المدعو قام بجرف الرمل الموجود في الأرضين بعمق 16 قدما في العام 1996».
وقال مكي «لا نعرف لماذا جرف التربة؟...» «الوسط» 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2002م.
وهذه مشكلة أخرى طغت على سطح الصحافة مما ساعد على تكريس التساؤلات القديمة العالقة ذاتها في أذهان الناس ان إدارة الأوقاف على رغم بعض إيجابياتها إلا انها تحتاج إلى تطوير إداري وكادر وظيفي جديد يتناسب مع ما تعيشه المملكة من انفتاح وشفافية وخصوصا نحن نلحظ من سياق بعض التصريحات الإدارية عن مشكلات العقارات غير المسجلة أو المشكلات الأخرى كالتي وقعت مع العقيد الهارب ان كل إدارة تلقي على الإدارة الأخرى سبب بعض الأخطاء. والضحية دائما العقارات الوقفية.
ولهذا يبقى التساؤل الواقعي: هل من المصلحة الوقفية ان تؤجر أرض لمتنفذ بهذا الحجم «العقيد» ولمدة 20 سنة على رغم تواضع المبلغ المذكور؟ وإذا كان هناك علم بتخريب الأرض واستغلال رمالها فتلك مصيبة وان لم يكن هناك علم للإدارة فالمصيبة أعظم. وإذا كانت الإدارة لا تعلم الدافع من حفر الأرض وهي لها صلاحية الساؤل وشرعية التساؤل من العقيد فالمصيبة تكبر وتعظم على ذلك. خصوصا ان هذه الأراضي ليست ملكا خاصا بل هي وقف لجمعيات إسلامية ولهيئات دينية. لقد قمت سابقا بذكر الكثير من الملاحظات والاقتراحات لهذه الإدارة الوقفية على أمل ان تكون الحجر التي تلقى في المياه الراكدة في سبيل تأهيل هذه الإدارة بما يتناسب مع المناخ الديمقراطي الذي تشهده المملكة لكننا على رغم كل ذلك لم نرَ أي تعليق من الإدارة. التعليقات وردود الأفعال جاءت من أناس متفرقين من الشارع وصلتني سواء عبر البريد الالكتروني أو المكالمات الهاتفية وحتى طرق باب المنزل. وكلٌ يحمل قصة. بضع من اتصلوا قالوا عندهم وثائق على ملاحظاتهم وكلامهم فقلت لهم نحن لن نقوم بتبني أي ملف ما لم يستكمل جميع أوراقه الثبوتية. وإذا وجدت نجمعها حتى نوصلها للمعنيين بذلك ومن ثم للصحافة بعد مرور اسبوعين من مقالي المنشور في الصحافة المحلية قام بالاتصال بي أحد أعضاء الإدارة في الاوقاف (...) وقد وجه لي دعوة لزيارة الادارة. وهي في الحقيقة بادرة جيدة بعد هذا الصمت الطويل. رحت أقلب الأفكار عن الأسئلة التي أحب ان أطرحها والتساؤلات التي قد تجد إجابات واقعية وواضحة ايضا أطرحها كي يستطيع القارئ أيضا تزويدنا بأي ملاحظات أو أفكار أو قضايا:
1- هل يحق لأعضاء مجلس الإدارة الدخول في المناقصات التي تطرحها الدائرة؟
2- هل يحق لأعضاء مجلس الإدارة استئجار أراضٍ أو شقق من الدائرة؟ وبأي معيارية يتم تسعير المناقصات والشقق المؤجرة والمباعة؟، وهل هناك اعتبارات خاصة للمعرفة الشخصية في بيع أو تأجير مثل هذه الوقفيات؟ هل بالإمكان معرفة أراضي الأوقاف التي تم بيعها وهل بيعت وفق معيارية اقتصادية متقدمة تأخذ مصلحة الوقف على جميع الاعتبارات الأخرى؟
وإذا كانت هناك أراضٍ تابعة للأوقاف وإلى الآن يرفض تسجيلها هل بالإمكان جمعها والعمل وفق ضغوط سلمية لتسجيلها أو تعيين محامين للترافع عن مثل هذه الأراضي قبل ان تطير كما طار غيرها من دون تسجيل؟ ويبقى هناك سؤال جوهري: الدائرة تحصل على أموال من قبل الدولة باعتبارها مؤسسة حكومية وأموال وقفية خاصة، فهل يتم التداخل بينهما فيؤدي إلى الخلط ما يسمح لمناورة الصرف الذي قد يسبب - لو حدث - اشكالات فقهية كبرى. ولأننا في عصر الشفافية ينبغي ان نطرح جميع التساؤلات بطريقة واضحة حتى نعرف الواقع. واعتقد ان من حق أي مراقب أو سلطة رقابية (الصحافة) ان تسأل عن جميع هذه القضايا من قبيل: ما هي صلاحيات مجلس الإدارة وهي تتحرك وفق رؤية فقهية شرعية ومنهج حداثوي علمي دقيق تجاه وقفيات الدائرة؟ وما يهمني هنا - تحديدا - الوقف الشرعي باعتبار دقة الشريعة في ذلك وتحسسها الكبير في إدارة مثل هذه الأموال التي تحتم توافر ضوابط فقهية دقيقة غير مطاطية أو قابلة للتحايل الشرعي الذي عادة ما يكون المنفذ لأي تسيّب أو ترهل وما هي صلاحيات مدير الدائرة؟ وهل يوجد دليل مالي وإدارة للدائرة؟ وهل توجد هناك رقابة على النذور التي توضع في المساجد ومزارات الأولياء؟ ولماذا لا يكون لهذه الدائرة الوقفية دور كأختها (الدائرة السنية) في دعم مشروعات وإنشاء خدمات إسلامية وثقافية للشارع العام؟ علما ان دائرة الأوقاف السنية تعتبر أفضل انضباطا والتصاقا وتوضيحا لمشروعاتها مع الجمهور، لها ندوات في التلفاز كما تم أخيرا، لها دورها بالارتباط الروحي والمعنوي والثقافي والخيري - ولو كان نسبيا - لكنها تحظى بقبول شعبي نتيجة تواصلها مع الناس بخلاف الادارة الجعفرية فهي اصبحت في بعض مواضعها واداراتها مكافأة ادارية تمنح رسميا لمن يكثر من الخطاب المدائحي الذي يكون محل استهجان حتى الرسميين في الدولة لأن الدولة مسبقا على قناعة بأن الزائد كالناقص والمبالغة في ذلك يؤثر حتى على سمعة الدولة التي وجدت ان الاتزان في الخطاب ما بين المدح والنقد بطريقة متوازنة يعطي للدولة الديمقراطية صدقية أكبر بخلاف المدح الذي يأتي الكثير منه في سياق البحث عن (حصة رسمية) أو (مكسب اداري مرموق) وهذه المفارقة في الخطاب المدائحي لا تجدها في ادارة الاوقاف السنية فمن يقرأ خطابها وخطاب ادارييها يجده افضل اتزانا وحضا بالقبول رسميا وشعبيا. ختاما نقول: ان الناس مازالت تتطلع وفي ظل تغير التشكيلات الوزارية - ان تكون ادارة الاوقاف الجعفرية واعضاء ادارتها خصوصا - بعد صحة فرضية تغير بعض اعضائها بحجم الاصلاح وبحجم طموح المجتمع البحريني فكما ان الدولة معنية بتغييرر وزراء نحو الافضل كما هو مؤمل فهي معنية بأن يكون الرئيس الجديد للادارة بحجم مشروعنا الاصلاحي سواء في كفاءته العلمية او الاكاديمية أو الفقهية إضافة إلى كل ذلك ان يكون بعيدا عن التجارة وان يكون نظيف الكف غير متورط في سوابق مالية خصوصا ان الناس توقف المئات من املاكها والكثير من وقفياتها وهي مطمئنة وخصوصا في ظل مشروع الاصلاح ان تكون الادارات بمستوى الامانة والدفاع عن اي تلاعب قد يقترب من هذه الاملاك
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 66 - الأحد 10 نوفمبر 2002م الموافق 05 رمضان 1423هـ