سأرجع بالذاكرة قليلاً للوراء، إلى يوم الجمعة، غرّة يوليو/ تموز الماضي. كان يوماً حزيناً في جمهورية بنغلاديش الشعبية. ففي الساعة الثامنة مساء هاجم 10 إرهابيين (وقِيل 7) مطعم هولي أرتسيان بحي غولشان الراقي في العاصمة دكا، وأطلقوا النار على الموجودين واحتجزوا رهائن.
وبعد عملية لقوات الأمن الخاصة لتحرير الرهائن في اليوم الموالي وعند الساعة الثامنة صباحاً، تبيّن أن هناك 20 قتيلاً داخل المطعم بينهم 9 إيطاليين و7 يابانيين (5 رجال وامرأتين) وأميركي ومواطنة هندية، ومواطنَان بنغلاديشيان أحدهما يحمل الجنسية الأميركية. وقد قالت الشرطة حينها أن المسلحين قتلوا أؤلئك المدنيين بالسلاح الأبيض داخل مكان الاحتجاز.
بعض أؤلئك القتلى لم يستطيعوا أن يتلوا شيئاً من القرآن الكريم مثلما طلب منهم المسلحون كونهم ليسوا بمسلمين ولا ينطقون العربية فقام الإرهابيون بتعذيبهم ثم قتلهم بدم بارد. أما رجل الأعمال الإيطالي جياني بوشيتي، فكان حظه أوفر من الآخرين. ففي لحظة الهجوم كان يتحدث عبر هاتفه المحمول في حديقة المطعم، وعندما شاهد الهجوم رمى بنفسه وسط آجام الأشجار المحيطة بالمطعم وسط الظلام، ما جعله لاحقاً وبعد تطويق المكان من الشرطة لأن يفرّ من مخبئه.
من ذلك الحدث الحزين أستلّ موقفاً لافتاً لم تتناوله كثير من وسائل الإعلام حينها، ما خلا بعض الصحف الغربية. إنه يتعلق بالمواطن الأميركي من أصل بنغلاديشي واسمه فراز أياز حسين. كان عمره 20 عاماً فقط. كان شاباً وسيماً ذو جسم نحيف ووجه طفولي بشّ، وشعر مستقيم مصفوف بشكل جميل وبشرة سمراء ناعمة، ويرتدي بنطالاً وقميصاً وبدلة لم تشوّهها الموضة.
كان يمكن لهذا الشاب المسلم أن يعيش ويواصل دراسته بجامعة إيموري بالولايات المتحدة الأميركية. كيف؟ فقد أذِنَ المسلحون للرهائن المسلمين فقط لأن يغادروا المكان. وبالفعل خَرَجَ مَنْ خرج ومن بينهم نساء محجّبات كُنّ هناك.
وعندما هَمّ فراز بالخروج من المكان اصطحب معه امرأتين كانتا ترتديان ملابس غربية، فلم يأذن المسلحون للمرأتين بالخروج كونهما ليستا بمسلمَتَين. قال لهم فراز أنه لن يخرج إلاّ معهما، فهما لم ترتكبا ذنباً، فلم يأذنوا له. حينها قرَّر البقاء ليلقى حتفه، ويصبح القتيل رقم 20 من بين الضحايا. كان الموقف وكأنه سريالي عَصِيّ على أن يفهمه أحد.
فعندما اختار أفراز البقاء لم يكن هناك أمل في النجاة مطلقاً كون عدد من القتلى كان ممدداً هنا وهناك وهو مضرّج بدمه. كما أن أمثال هؤلاء المسلحين الإرهابيين كانوا قد فجروا قبل أزيد من عشرة أعوام ونيّف زهاء 500 قنبلة في 64 مكاناً مختلفاً من بنغلاديش وفي وقت واحد متزامن. وكان نصيب الضحايا هائلاً وهامش النجاة لمن هم في أيديهم شبه غائب. وبالتالي فالمصير معروف.
كان ذلك الخَيَار صعباً لأي شخص يُخيَّر بين أن يعيش أو يموت. عندما تُقرِّر أن تعيش فإنك تنحاز إلى طبيعة حب البقاء. وعندما تُقرِّر أن تموت ومن أجل الآخر فإن في ذلك انحياز حاد لقيم مختلفة لا يستطيع الكثيرون اعتناقها. وعندما يُضَمّ إلى ذلك الخَيَار الصعب تفصيل جديد يصبح أكثر تألقاً. فمثلاً: عندما تكون الدنيا مفتوحة أمامك، ويسار العيش متاح لك تصبح الحياة أكثر لذة، ويتمسك بها المرء بقوة، وهو ما ينطبق على حالة ذلك الشاب (فراز) صاحب المستقبل الواعد.
خلال معركة ستالينغراد كان الجنود السوفيات في بدايتها قد أصابهم الإنهاك والألم نتيجة الجروح الغائرة والخسائر الفادحة. فكان بعضهم يخرج من الخنادق عمداً ويقف على رجليه فقط كي يشاهده الجنود الألمان ويُطلقوا عليه النار ليسقط قتيلاً. فلم تكن لديهم أدنى رغبة في الحياة وسط كل ذلك الجحيم، الذي لم يكن يُتِيحْ لأي جندي مشارك في سوحه أن يزيد متوسط عمره عن 24 ساعة فقط. لذلك، يُمكن لليأس أن يدبّ عند الكثيرين ويختاروا خلاصهم بأيديهم.
أما في مطعم هولي أرتسيان وحي غولشان فإن الحياة كانت تنضح بالصور المخملية وبحياة أبناء الذوات. كان كل شيء يدلّ على أن الحياة جميلة والسعادة فيها غامرة. وأن اليوم التالي سيكون حافلاً بالبرامج الترفيهية، مع جيوب مليئة بالدولارات. كانت تلك هي صورة الحياة التي تراءت أمام فراز حسين، لكن لم يكن ذلك خياره، وهو يرى أؤلئك «البشر» من غير عِرقه ولا دينه وهم يُساقون إلى الموت بالسكاكين.
وبالمناسبة فوصف (مدنيون لا ذنب لهم الذي قِيل عن الفتاتين اللتين أراد فراز إخراجهما) ينطبق كذلك على بقية الضحايا الأجانب. فالإيطاليون (رجالاً ونساءً) كانوا رجال وكُنّ سيدات أعمال. واليابانيون (الرجال الخمسة والمرأتين) كانوا جميعهم من عمال المساعدة. أما المواطنة الهندية فكانت طالبة وهكذا دواليك. وبالتالي فلم يكن لديهم أنشطة خارج عملهم المدني الصرف.
إنه درس كبيرٌ من شاب صغير لا يزيد عمره عن الـ 20 ربيعاً لأمة المليار مسلم. بل هو درس إنساني شامل للجميع. هو يُعرِّي كل الصفات المذمومة وأولها تلك التي تنظر للآخر المختلف وكأنه عدو لا يُنتَصَر له في شيء. والأهم أنه يفضح مَنْ نحروا رقبة الأخوة في الدين والقومية والوطن حين باعوا أخوّتهم لصالح الغرائز الذئبيّة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5290 - الأربعاء 01 مارس 2017م الموافق 02 جمادى الآخرة 1438هـ
هذه القيم النبيله من الطالب لا يفهمها الا انسان حر وصاحب ضمير ، اما الكثير هنا في بلادنا لا يعون لذالك ولا يعرفون شي عنه
لتسليطك *
موضوع محزن ومبكي ان يكون في هالعالم الي حوالينه ارهابيين بهذي الدموية شلون نتخلص منهم ما يملكون ذرة من الرحمة
يقتلون وينهبون باسم الاسلام والدين والاسلام برئ منهم ومن افعالهم
الانسانية اولا مقدمة على العرق والدين
سلمت يداك يا ابو عبدالله
المتطرفون لادين لهم ولاانسانية. شكرا لك لتصليتك الضوء على هذه المقاطع الناصعة من حياة اخوة في الانسانية يضربون اروع الامثلة علي عمق احساسهم والتزامهم الانساني
: هذا الكلام وهذه القصص الواقعيه تفهمها الانسانيه والادميه وتفقها قلوب الخير وحب اا الله.لا نسانيه يا استاذ محمد لا غيرهم من اناس كا الانعام اعمى الله بصرهم وبصيرتهم والعياذ ب.
الإنسانية تختلف عن الدين فهناك متدينون يتخذون الدين وسيلة لمصالحهم الشخصية بينما الإنسانية لا تقتصر على عرق أو دين أو طائفة.
المخربين والارهابين في كل دول العالم الله يحفظنا منهم