كان يوماً بعد كل يومٍ رتيبٍ مختلفاً ومضطرباً، وأنا أقود سيارتي وسط هذه الصحراء، كانت الأسئلة تشدني والأفكار ترد إلى خاطري بطريقة جنونية، أحاول أن أصنع وشائج بينها، ولكن كل شيء يبدو ضوءاً منهزماً تحت ظل شجرة، مَن هي التي تغادر الروح أم النفس أثناء الموت والنوم؟! إن كان الجسم عربة والروح مولدة العربة؛ فالنفس إذاً هي سائقها وتتوقف الحياة بتوقف السائق، ولكن في الحلم هل تأخذ النفس استراحة كأي سائق ثم تعود من جديد لمتابعة طريقها؛ أو تتوقف الرحلة بحادث يموت فيه السائق، ولكن الأحلام ما هي إلا ثمار لجذور الماضي وهي نتاج انفعالاتنا وتصوراتنا وكبتنا، وهي بذلك تكون نتيجة موضوعية للنفس - بأنواعها الإمارة بالسوء واللوامة.. الخ أن ترحل يوم تأزف الساعة.
بدأت أفقد تركيزي وأنا أقود السيارة بكل هذه المسائل التي تشغل بالي، إذ بدت الرحلة طويلة، حتى إني لم أنتبه إلى مؤشر الوقود، توقفت سيارتي كان الطقس حاراً ومغبراً جداً، كل ما هنا ساكن جداً، تتبعثر الأفكار في خاطري كحبيبات الرمل التي تحيط بي، لماذا سلكت هذا الطريق ولم أسلك الأخر المعتاد؛ والذي أسلكه مثل كل مرة، ولسوء الحظ لا تغطية في هاتفي المتحرك، وقد نفد الماء أيضاً من قنينة مائي، ولا غيمة تعصر منديلها على جبيني المحموم، كما أن معدتي بدأت تعزف موسيقاها، ولا حيوان في هذه الصحراء أقتله وأسد جوعي بموته؛ كي أحيا.
مشيتُ وأنا أنتظر أي فرصة للنجاة، بعد ساعات وقبل أن يرمي الليل جلبابه، سمعتُ صوت زمور سيارة تقترب مني، حسبت الصوت سرابا كما يحدث في الصحراء عادة، لم أتيقن أنها حقيقة حتى توقفتْ قربي، كانت شاحنة لنقل السجناء إلى الزنزانة التي تقع خلف قريتي، فرحتُ جداً عندما قال السجان لي أنه سينقلني إلى هناك، شكرته وزجني في الخلف بين المجرمين، فطمس كل السواد الذي يحيط بي بنور من هذه السيارة المخصصة لنقل المساجين، لا مشكلة عندي، كنتُ مستعداً لأي شيء فقط أن أنتهي من هذه الصحراء التي تحيط بي، كان كل شيء أصفر أصفر جداً، وأنا أبحث عن وشيجة تعيدني إلى حياتي المعتادة.
جلستُ قرب المساجين، كانت أيديهم مكبلة بالأصفاد وجاء شرطي وكبّل يدي أيضاً خشية أن أقوم بتهريبهم، طمأنني السجّانون بأنهم يفعلون ذلك في سبيل الاحتياط ريثما أصل إلى قريتي حتى يفكّوا السلاسل.
السلاسل ثقيلة، وعيون السجناء مكسورة الآمال، لا بريق فيها مطلقاً، يتهامسون بصوت خفيف جداً، سمعتُ من أحدهم أنه كان لصاً وهو نادم جداً، والآخر كتب في السياسة وناضل في سبيل قضيته، تمتمتُ مع نفسي وأنا مثلك فكرتُ في الفلسفة، كان السجناء من مختلف الألوان؛ الأسود والأبيض والأشقر والأصفر.
عاد كل شيء أصفر أصفر جداً حولي، والدوار لا يفارقني، خبطت على البلّور الفاصل بيننا وبين السجّانين ولكن ما من أحد جاوبني، رفستُ الزجاج بقدمي المكبلتين فقد وصلت إلى قريتي ولم يتوقفوا، ولكن الزجاج لا يتأثر؛ فهذه شاحنة مصممة لهذا الغرض، حاولتُ جاهداً، ولا حياة لمن تنادي.
وصلنا السجن وأخرجونا واحداً تلو الأخر، عاملوني كأي سجين وأنا أبحث عن السجان الذي أنقذني، لم أجده، بحثتُ عنه كثيراً، أنكر الجميع شخصاً بهذه الصفات، شرحتُ للسجانين القصة ولم يصدقني أحد، زجّوني في سجن معتم جداً، أصبح حولي كل شيء أصفر جداً مرة أخرى وأنا بانتظار محاكمتي الصفراء.