اذا نظرنا بصورة متكاملة وشاملة إلى مجمل القضايا التي تشغل المنطقة، نجد ان هناك قضية واحدة تفرعت عنها مجموعة من القضايا الفرعية، تحولت بمرور الزمن إلى ما يشبه القضايا الاساسية، القضية العربية الاساسية هي قضية فلسطين، لهذا لا يجوز أن تنسينا القضايا العربية الأخرى المصدر، وتحول الوطن الواحد إلى مجموعة أوطان تدار من قبل القوتين الأعظم آنذاك فرنسا وبريطانيا، وتبعثرت (الأمة الواحدة) إلى (أمم) و(الشعب الواحد) إلى (شعوب) و(الثقافة الواحدة) إلى (ثقافات) و(اللغة العربية) إلى (لهجات). لكن المستعمر لم يكتف بهذا التقطيع، فعمل على فصل جناحي الأمة العربية من خلال زرعه عنصرا سرطانيا غريبا، باقامة الكيان الصيهوني العنصري في فلسطين العربية في العام 1948، وبدأت نكبة جديدة في تاريخ العرب لأن المستعمر آنذاك أحس بأن الشعب العربي من مشرقه إلى مغربه لم يقتنع بالحدود الوهمية المرسومة، فأراد أن يبدأ بلعبة فرض أمر واقع جديد يفهم العرب بأن وحدتهم الجغرافية، أولا، ما هي الا مشروع مستحيل التحقيق، وطالما ان السرطان الصهيوني سيتكفل بتخريب خلايا الجسد الواحد، فكان العدوان الثلاثي الغادر على مصر - عبدالناصر في التاسع والعشرين من أكتوبر/تشرين الاول 1956 بعد تأميم لقناة السويس، ثم عدوان الخامس من يونيو/ حزيران 1967 على مصر وسورية والأردن، وغزو لبنان في الرابع من يونيو/ حزيران 1982، ومع هذا كله فإن المشروع الصهيوني الهجين ظل عرضة للتهاوي والسقوط والهزيمة.
ففلسطين لم تَصْفُ للصهاينة الغزاة، ولبنان طرد المحتلين، وسورية لم تقبل بأقل من استعادة حقوقها المشروعة، وجاء الكابوس الذى أقنع أصحاب المشروع الاستعماري بأنهم لايزالون في بداية الطريق، على شكل انتفاضة شعبية فلسطينية كاسحة، حاولوا الالتفاف عليها من خلال (أوسلو)، فلا هذا حقق أهدافه ولا ذلك، (جماعة أوسلو) أصبحت اليوم مثل (جماعة كوبنهاغن)، أو (جماعة غرناطة)، تنعق ولا مجيب، وجماعة الجنرال السفاح «آرييل شارون» أسقط في يدها وبقيت الهوية الفلسطينية راسخة ليس فقط فيما احتل من فلسطين في 1967 بل أيضا فيما احتل في العام 1948.
فلسطين اذا لا تزال عربية من النهر إلى البحر، حتى ولو جثم الاستعمار الصهيوني البغيض فوق صدرها، وسجن أهلها، ودمر البيارات والمساكن، وأتلف المحاصيل ودمر المصانع الصغيرة، بقي في فلسطين الملايين من ابنائها يدافعون عن وجودهم وأرضهم وعرضهم وعن انتمائهم العربي، على الرغم من ضخامة آلة القمع الصهيونية - الاميركية. الولايات المتحدة الاميركية أخذت دور حماية المشروع الصيهوني، الذى هو أساسا مشروع استعماري من المستعمر القديم، لم تتمكن من طي الملف الفلسطيني المزعج، والذي يشكل بؤرة توتر دائم في المنطقة، يذكر بعض العرب بعروبتهم من وقت لآخر. هو الرفض اذا للمشروع الاستيطاني البغيض الذى فرض على المنطقة العربية منذ ما يزيد على نصف قرن بصيغته العملية، وكيف يقبل دهاقنة السياسة الاميركية أن ترفض مشروعاتهم في هذه المنطقة بعد أن نجحت في أماكن كثيرة من العالم؟!
وجاءت قضية العراق بكل أبعادها وذيولها، والتي لا نريد الدخول في تفاصيلها الآن لأن لنا في كل مفصل منها رأيا، فصار لا بد من التفكير جديا بطي «الملف المزعج»، ففي أعقاب حرب الخليج الثانية وعد الرئيس الاميركي الأسبق بوش - الأب باقامة نظام عالمي جديد، والأصح أن نسميه نظاما اميركيا جديدا، فنجح فيه عالميا إلى حد كبير، لكنه أخفق في تحقيقه اقليميا، فلماذا لا يتسلم «بوش - الابن» تلك الراية ويقوم بانجاز (الاستقرار الاقليمي) في منطقة الشرق الأوسط؟!
وهذا هو لبّ الموضوع. جميع الاتفاقات التي أبرمت مع السلطة الوطنية الفلسطينية انتهت إلى ما بدأت به (غزة أولا)، فاذا نجحت السلطة في تحقيق الأمن لـ «اسرائيل»، فستكافأ ببضعة أمتار هنا وبضعة أمتار هناك، والا فستستمر «اسرائيل» في طرد فلسطينيي الضفة الغربية نحو قطاع غزة، وبما ان القطاع يضيق بأهله، ويعتبر من أكثر المناطق الآهلة بالسكان كثافة، فانه لن يتمكن من استيعاب المهجرين اليه من الضفة الغربية ومن الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة في العام 1948، وهنا سيجد الفلسطينيون أنفسهم امام خيار واحد، الهجرة، وبما أن العالم الغربي يرفض استيعاب الهجرة المحتملة لآلاف، بل لعشرات الآلاف من الفلسطينيين، فلابد إذن من ايجاد البديل، المطروح حاليا، ويجب عدم الاستهانة بذلك، وهو العراق.
ولكن أي عراق؟!
السيناريوهات المطروحة كثيرة، لكن أهمها وأخطرها هو التقسيم، واذا كان البعض لايصدق ذلك، مع انه مشروع اسرائيلي، والولايات المتحدة الاميركية تحترم مثل هذا المشروع بالكامل ثم توجيه القسم الأكبر من الفلسطينيين إلى الجزء الذى تحدده الولايات المتحدة الاميركية في العراق، ما يفرغ فلسطين من فلسطينييها، وتصبح خالصة لليهود الصهاينة كما يريد مشروعهم الخبيث أصلا.
الأخطر من هذا، حينما يقسَّم العراق، لأن الدول العربية المجاورة ستشرب من كأس السم نفسه أيضا، لأن السيدين «سايكس - بيكو» حين درسا المنطقة لجآ إلى طريقة خبيثة جدا، إذ وضعا الحدود بين الأهل والعائلة الواحدة، والعشيرة الواحدة، وعندها، بحسب التصور الاميركي، ماذا سيبقى من الكويت والامارات والسعودية ولبنان وسواها، أو بشكل أدق ماذا سيصبح حالها؟!
مرة أخرى سيجري تقسيم الوطن العربي، لكن هذه المرة وفق عملية جراحية تكنولوجية بالغة الذكاء والتعقيد، بحيث لا تقوم للعرب بعدها قائمة، سواء كانوا موالين للولايات المتحدة الاميركية أم معادين لها، أو راغبين في التعامل معها وفقا للقانون الدولي وشرعة الامم المتحدة، لأن التجربة أثبتت ألا أصدقاء دائمين للولايات المتحدة ولا حلفاء أبديين، فالقوة الطاغية أعمت أبصار الساسة الاميركيين الجدد الذين يأخذون على أسلافهم، وعلى «اسرائيل» بأنهم ليسوا أوفياء للتوراة.
في كل ما سبق أريد القول ان المشروع الصهيو - اميركي قد فشل في فلسطين، لذلك يريدون انجاحه من خلال تنفيذ الشق الثاني من مؤامرة «سايكس - بيكو»، لهذا نرى الولايات المتحدة مستشرسة، بل ومهووسة إلى درجة المرض بتطبيق هذا المشروع الذى أفشلته الانتفاضة الباسلة في فلسطين المحتلة. لذلك لابد للأمة العربية من العودة إلى القضية الأساس، وهي القضية الفلسطينية، وإلى دعم الثوار هناك في حرب التحرير التي يخوضونها ضد ضياع فلسطين أولا وضرب العراق ثانيا وضد فناء الأمة العربية أخيرا.
كلنا معنيون بحرب الابادة التي تشن علينا، لأنها ترجمة فعلية لمقولة الرئيس الاميركي الأسبق «روزفلت»: «انه من الشعوب والاعراق المنحطة التي لا بد من ابادتها»
العدد 65 - السبت 09 نوفمبر 2002م الموافق 04 رمضان 1423هـ