على نمط يا قوم لا تتكلموا فإن الكلام محرم (مع الاعتذار لمعروف الرصافي)، فوجئت الجماهير البحرينية والوسط الثقافي بصدور مرسوم بقانون 47 للسنة 2002، لتنظيم الطباعة والصحافة والنشر، وبذلك الغي القانون السابق رقم 4 للسنة 1975 بجرة قلم، ومن دون سند قانوني دستوري أو مجلس تشريعي يقدم مشروع قانون عن الصحافة والنشر. في هذا السياق يجب ان نذكر الجميع بحقوق المواطن المدنية الأساسية ومن ضمنها حرية التعبير التي يكفلها أي دستور ديمقراطي.
ويعتبر الرأي والرأي الآخر، شكل من أشكال التعبير لإصلاح الخلل الذي قد ينشأ من ممارسة العمل الديمقراطي، ووسيلة نقدية بناءه للمحاسبة والرقابة المدنية، لكشف العيوب وتجاوزات المسئولين الخارجة عن السقف القانون الذي تحدده النظم الديمقراطية لمراقبة تصرفات المسئولين في الحكومة. والغرض من حرية التعبير هو وضع آلية فعالة لحماية الحقوق المدنية للفرد وخدمة المجتمع، ومحاسبة الأفراد والمسئولين المتجاوزين للقانون. وحرية التعبير بحسب الرأي الأميركي (1946) فراكلين روزفلت من الحريات الأربع الأساسية وهي: حرية الرأي والكلمة، حرية العقيدة أو الديانة، حرية الاختيار واللاملاحقة، حرية الشعور بالأمان والطمأنينة.
الإصلاح واستقلالية الإعلام
نحن نعيش الآن في عصر الميثاق وهو عصر الإصلاح السياسي في البحرين في ظل نظام ديمقراطي وليد. من متطلبات عصر الانفتاح الحالي ومن ضمن أمور أخرى إعطاء حرية التعبير عبر ما يكتب في الكتب، والصحف والمجلات، وما يقال في الإذاعة والتلفزيون والأفلام وشبكة الإنترنت والمنتديات الخطابية وأماكن العبادة ومؤسسات المجتمع المدني. هذا الحق كفله ميثاق العمل الوطني، الذي صوت عليه الشعب البحريني بالإجماع بنسبة 98 في المئة، في الفقرة الرابعة من الفصل الأول من الميثاق (المقومات الأساسية للمجتمع) وتنص على ان: لكل مواطن حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو بأي طريقة أخرى من طرق التعبير عن الرأي أو الإبداع الشخصي، وبمقتضى هذا المبدأ فإن حرية البحث العلمي وحرية النشر والصحافة والطباعة مكفولة.
قانون مكبل للحريات
بعد ان قطعنا مشوارا لا بأس به من حرية التعبير، يطل علينا قانون 2002 ليكبل الصحافة المقيدة في الأصل، ولم ترتقِ حتى إلى مستوى أقرب الجارات الخليجيات، فقد قيد ابداع الكاتب والشاعر والأديب البحريني، واتجه لوسائل الإعلام العربية والأجنبية الآخرى للتعبير عن آراء مختلف الأطياف السياسية والكتاب والمثقفين وغيرهم من أركان المجتمع البحريني.
السؤال الذي يطرح في الشارع العربي، هل المفكر البحريني بليد أم ان قيود حرية التعبير عليه جعلته يتردد مرتين قبل ان يقدم على أي مبادرة فكرية. المؤسف له ان وسائل الإعلام الرسمية استخدمت كمنبر لطرح رأي أحادي الجانب يغيب الآراء الأخرى التي لا تملك وسائل ومنابر للتعبير، وخصوصا ان قانون 2002 للمطبوعات والنشر يضع حدودا تعجيزية لممارسة العمل الصحافي أو الكتابة. ليس هذا فحسب بل ان الآراء التي تطرح في وسائل الإعلام والصحيفتين الرسميتين تمنع آراء أو أقلام أو أفكار الآراء والأقلام الحرة من طرح وجهات نظرها. الرأي الآخر سيوفر المجال لطرح نقد بناء هدفه المحاسبة والرقابة ومنع الفساد، ولا يمكننا ان نحقق هذه الأهداف إلا عن طريق ممارسة حرية التعبير بكل أشكالها. القانون سيحد من استقلالية الصحافة والنشر ويمنع إصدار صحف مستقلة جديدة بسبب القيود التي يضعها القانون على رؤساء التحرير، أو ابداء رأي مغاير في وسائل الإعلام التي تملكها السلطة وبدل ان نعطي للصحافة حقها في لعب دور السلطة الرابع.
ما هو الحل؟ الحل يكمن في إلغاء وزارة الإعلام، وطرح ثلاثة أرباع أسهم هيئة الإذاعة والتلفزيون التي كان يجب ان تكون مستقلة للجمهور، وإنشاء مجلس إدارة مستقل تنتخبه جمعية عمومية للمساهمين. أما فيما يتعلق بالصحافة فيجب ان تكون هناك بورصة للصحافة الحرة، تمكن الصحافة من المنافسة ونرفع مستوى المادة الصحافية ومستوى الصحافيين البحرينيين بمجرد السماح لها بحرية التعبير، ويكون البقاء للأفضل، والصحيفة التي تستطيع جذب الجمهور بمقالاتها هي التي تفوز بثقة الجمهور البحريني بطوائفه كافة. ونحن نعترض على تصنيف كل صحيفة حسب طائفة رئيس تحريرها وهذا نوع من التمييز.
المجتمع البحريني ليس مجتمعا متزمتا ليضع قيودا مختلفة على ما قد يقوله الناس، فهناك حكومات غير ديمقراطية تمنع الكلام لانها تعتقد انه يضر بالحكومة أو الناس بأسلوب مخابراتي ممقوت ينفر منه الشعب، لكن من الصعوبة بمكان رسم خط بين الكلام الضار وغير الضار. مثال على ذلك ان تقوم الرقابة الإعلامية بتعيين رؤساء تحرير للصحف والمجلات المحلية، موالية للخط الرسمي، وبذلك تمنع الرأي الآخر من طرح وجهة نظره، وكذلك الحال بالنسبة للإذاعة والتلفزيون ووكالات الأنباء بتعين مدراء أو مذيعين هدفهم الأساسي مهاجمة الرأي الآخر بشن حملة إعلامية شرسة من دون تمكينه من طرح وجهة نظره بشكل حضاري؛ الأمر الذي تعدى إلى فرض قانون المطبوعات والنشر الحالي على عمل شركات الهاتف ووسائل الاتصالات الأخرى التي تسيطر عليها الحكومة لممارسة سلطة رقابية رسمية، والدليل على ذلك، إغلاق شركة بتلكو مواقع تصل إلى 25 منتديا بحرينيا على شبكة الانترنت، لكون هذه المواقع تمثل الرأي الآخر، على رغم من أن المواقع الأخرى التي تمثل الرأي المتقارب لم تغلق. ويذكر علميا أن السيطرة على هذه المواقع ليس بالآمر السهل، نظرا لتطور علوم الالكترونيات، مما يكلف «بتلكو» مثلا الكثير من الأموال لملاحقة هذه المواقع وإغلاقها. إلا أن الرقابة منعت الرأي الآخر من الرد عليهم خصوصا في الصحف المحلية، ما دفع الرأي الآخر لفتح منتديات في شكل مواقع على الانترنت لطرح وجهة نظرهم، وقد كانت هذه المواقع فعالة لكون البحرين ثاني دولة عربية بعد الإمارات في استخدام الانترنت، اذ يصل عدد مستخدمي الانترنت إلى 168 ألف شخص في دولة لا يتعدى عدد سكانها 600 ألف نسمة.
حدود تقيّد وسائل الإعلام
طبعا هناك حدود لتقيد وسائل الاعلام بحسب خصوصية كل مجتمع مدني، وبحسب الضوابط التي تضعها مؤسسات المجتمع المدني المعنية باشأن العام، وليس لدواعي أمنية كما يحصل في معظم الدول العربية ودول العالم الثالث لتكبيل حريتها. صحيح أن بعض الجهات أساءت استخدام حرية الصحافة. ولكن تلك الجهات استخدمت الجنس والفضائح والقصص المثيرة لجذب جمهور القراء وهذه تسمى صحافة الإثارة، كما أن هناك الصحف العميلة التي تمول من جهات غير قانونية، هدفها تضليل الرأي العام والتشهير ويطلق عليها الصحافة الصفراء. هذا النوع من الصحافة ليس له علاقة بهموم الناس ومشكلاتهم، ولكنها تكون دخيلة على مجتمعات ملتزمة كمجتمعنا البحريني ويجب بالطبع أن تمنع.
ليس هناك مجال للشك أن بعض البلدان غير الديمقراطية، أفقدت الصحافة حريتها بفضل الرقابة الحكومية المتشددة. فمثلا حجر الفاشيون في إيطاليا والنازيون في ألمانيا حرية الصحافة قبل الحرب العالمية الثانية وأثنائها، وكان هتلر أول من عين غوبيلز وزيرا للدعاية في العالم اذ أن وزارة الإعلام لم تكن معروفة في أي جزء من العالم، وتبعته الدكتاتوريات الشيوعية والعسكرية بتعيين وزراء للإعلام، ليس هذا فحسب بل أن وزراء إعلام البلدان غير الديمقراطية يعينون إما من الجهاز العسكري أو المخابرات أو من المتملقين للنظام من انصاف المتعلمين، مما يثير سخط الجمهور ونقمتهم على وسائل إعلام بلدهم. وتصل الأمور إلى درجة مقاطعة سماع أو مشاهدة موادها الإعلامية سواء في الإذاعة أو التلفزيون أو الصحافة والدوريات أو المواد الإعلامية التي يعزف الجمهور عن شرائها فتوزع مجانا. كما أنهم استخدموا الصحافة لخدمة أغراضهم الدعائية، كما فعلت الدكتاتوريات المدنية أو العسكرية التي حكمت في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية (1945).
مفهوم حرية التعبير يعني حق وسائل الاعلام المختلفة بما فيها الصحافة في نشر الحقائق والأفكار والآراء المختلفة بحرية تامة من دون تدخل من الحكومة، أو جماعات الضغط الخاصة، أو إجبار رؤساء التحرير أو المذيع أو الإعلامي بممارسة رقابة ذاتية تتوافق مع الخط الرسمي للدولة. وينطبق هذا الحق على الوسائل الإلكترونية التي تشمل الإذاعة والتلفزيون ووسائل الاعلام الحديثة كشبكة الانترنت والأقمار الاصطناعية والبث الفضائي.
الصحافة والسلطة
نشأ الخلاف على حرية الصحافة منذ أن بدأت الطباعة الحديثة في القرن الخامس عشر الميلادي لما للكلمات من قوة تأثير كبيرة على الناس. وتعد قوة الإعلام اليوم أهم من أي وقت مضى بسبب العولمة الثقافية، التي زادت من كثرة وسائل الأتصال الحديثة. وتضع بعض الحكومات قيودا على الصحافة لأنها تعتقد أنها تستخدم لمعارضتها. وقد وضعت كثير من الحكومات الصحافة تحت سيطرتها لتخدم مصالحها. ويعمل معظم الناشرين والكتاب على عكس ذلك من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من الحرية.
وتمنح الدساتير الديمقراطية حرية الصحافة لتشجيع تبادل الأفكار ويحتاج المواطنون في النظم الديمقراطية الغربية إلى المعلومات لتساعدهم على تقرير ما إذا كانوا يؤيدون السياسات التي تتبناها حكوماتهم. وفي النظام الديمقراطي تطبق حرية الصحافة ليس فقط على الأمور السياسية والاجتماعية، ولكن أيضا على الأعمال التجارية، والأمور الثقافية والدينية والعلمية. ويمكن قيام الرأي الشعبي عن طريق استطلاع أو استفتاء تجريه الصحافة للجمهور، وهذا المعيار لا يطبق في أي من الدول العربية.
وتقّيد معظم الحكومات الديمقراطية حرية الصحافة في ثلاثة أنواع من القضايا. وفي مثل هذه القضايا، تعتقد هذه الحكومات أن حرية الصحافة تعرض الأفراد، والأمن القومي، أو الأخلاق الاجتماعية للخطر. وهذه القضايا هي: قوانين ضد القذف أو الاعتداء على الخصوصية، فتحمي الأفراد من الكتابات التي قد تهدد سمعتهم، أو خصوصيتهم. قوانين ضد الفتنة (إثارة الثورة) والخيانة لمنع نشر مواد تضر بأمن الدولة. قوانين ضد أعمال منافية للآداب (كاللغة البذيئة) تهدف إلى حماية أخلاق الناس.
وحتى حين يكفل الدستور حرية الصحافة، فإن على الصحافة أن تنظم نفسها. ويتجنب الناشرون والمذيعون نشر مواد خارجة عن الآداب واللياقة، وأي أمر آخر قد يخدش حياء عدد كبير من القراء أو المشاهدين أو المستمعين، تطبيقا لنظرية المسئولية الاجتماعية في الأعلام. لا مجال لصحافة الفضائح كما حدث للصحافة الأميركية التي كشفت فضيحة «ووتر غيت» أو «مونيكا غيت، وغيرها، ولا ننسى كيف أطاحت الصحافة بالرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون».
وتحاول الحكومات الديمقراطية أحيانا حظر تداول الكتب التي تعتقد أنها تخترق حواجز قوانين الأمن القومي. وقد تعترض الجماعات الدينية على كتاب أو فيلم يعتقد أنه مسيء لها، كما هو حاصل حاليا في مصر، وتحاول سحبه عن طريق الناشر أو الموزع، لكن هناك دول قسرية تمنع حرية العقيدة وتمنع تداول كتب طوائف ومذاهب لا تتفق مع اتجاهها الديني. وتفرض حكومات كثير من الدول قيودا شديدة شاملة على الصحافة. ولعدد من الدول الشيوعية، وآسيا، وأميركا اللاتينية، وأفريقيا، والشرق الأوسط، لجان رقابة صارمة تفحص المادة الإعلامية، يكون أعضاؤها عادة من غير المؤهلين ولا يتمتعون بقدر من الثقافة للتمييز بين المواد الإعلامية الصالحة وغيرها. ويعمل هؤلاء المراقبون على التأكد من أن الصحف والمطبوعات الأخرى تتبع توجيهات الحكومة وتتفق مع سياسة الدولة.
وفي الأنظمة الدكتاتورية، تتحكم الحكومة عادة في الصحافة وجميع وسائل الاعلام عن طريق ملكية الصحف والإذاعة والتلفزيون والمحطات الفضائية والأقمار الاصطناعية وشبكة الانترنت وإدارتها بنفسها. كما تعمل على التأكيد من أن الصحافة تتبع سياسة الدولة أو الحزب الذي يمثلها.
بطبيعة الحال، يتعارض قانون 2000 مع مبدأ حرية الرأي واستقلالية وسائل الاعلام. إذ لابد من مواكبة عصر الميثاق والانفتاح الحالي، باتخاذ إجراءات جادة تضمن حرية التعبير، ونحن بهذا الصدد نناشد القيادة الحكيمة بقيادة صاحب العظمة عاهل البلاد، كفالة حرية الصحافة البحرينية ووسائل الاعلام الأخرى، لتكون منبرا صادقا يعبر عن آراء وتطلعات كل طوائف الشعب البحريني، ووقف أسلوب التحريض الطائفي التي تمارسه بعض الجماعات الضيقة الأفق، أو استخدام وسائل الاعلام الرسمية منبرا لها لبث سمومها، والتركيز على الوحدة الوطنية وأهمية تعاون الأطياف السياسية كافة لبناء البحرين كوطن للجميع.
تفاءلنا خيرا بترخيص ظهور صحف مستقلة جديدة ونتمنى ان يتاح المجال للترخيص لظهور وسائل اعلام مستقلة أخرى، تعبر عن رأي الشارع البحريني، وهذا يتطلب من بين أمور أخرى تعديل قانون المطبوعات والنشر لعام 2002م، لضمان استقلالية وسائل الاعلام بشفافية المرحلة السياسية الراهنة. يجب أن نمكن الصحافة من طرح هموم ومشكلات الناس لحل أهم قضايا المجتمع البحريني الملحة كالبطالة والوضع الاقتصادي والإسكان. ولإصلاح الخلل لابد من استقلالية الجهاز الإعلامي وإعادة هيكلة وظائفه، وتطبيق مبدأ المساواة في تعيين الإعلاميين بنسبة متعادلة لجميع الطوائف من المؤهلين، بمشاركة قطاع كبير من المثقفين البحرينيين وأصحاب الرأي والرأي الآخر، لخدمة الجمهور والدولة على حد سواء. ولا شك في أن الهم الأكبر للمواطن البحريني هو تحسين وضعه الاقتصادي والاجتماعي، مما يتطلب أن تتوافر له وسائل تعبير حرة لطرح مشكلاته. وهذا هو المقياس الحقيقي للشفافية التي تحمي حقوق المواطن المدنية والمشاركة في العملية التنموية على أساس ديمقراطي
العدد 65 - السبت 09 نوفمبر 2002م الموافق 04 رمضان 1423هـ