قد لا أكون مخطئاً إن قلت بإن ما كتبه نيك كوهين في الـ «غارديان» البريطانية قبل أيام هو أهم ما طُرِحَ في الفترة الأخيرة من رؤى. لقد قال شيئاً كنا نعتقد أنه «هاجس شرقي» فقط، لكن الذي يظهر أنه أمر أكبر من الشرق أو الجهويات، ويمتد إلى حيث العوالم الأخرى، ومن بينها العالم الأول والمتقدم «الغرب» كما يُوصف. لقد أمسَكَ كوهين بأساس مشكلة العالم والنخب وإدارتها لشئونها.
في الـ 11 من فبراير/ شباط الجاري كَتَبَ كوهين مقالاً تحت عنوان «How the lunatic fringe conquered world politics». كان حديثه عن: كيف استطاعت الجماعات المتطرفة والمجنونة أن تغزو العالَم. كوهين يفترض أن هناك ثلاثة أنواع من البشر هي مَنْ تُسيطر على القوى المتطرفة في العالم. أولهم: المجانين أو المعتوهون. وثانيهم: الساخرون أو الهازلون. وثالثهم: المتسلقون أو المتسللون.
أما أدوارهم فهي كالتالي: المجانين/ المعتوهون دائماً ما يكونون في قاع تلك الجماعات. الساخرون/ الهازلون يكون دورهم دعائي تأجيجي بكل أدوات التأثير، لذلك بهم تشدّ تلك القوى عودها. أما المتسلقون أو المتسللون فدورهم معروف، وهو تخطي الرقاب على حين غرّة للوصول إلى صدارة المكان والغنائم. وهو أمر يحدث عند القوى المتطرفة والمعتدلة بالسواء، وهم أيضاً على قدر كبير من السخرية.
كوهين يختار من أولئك الأصناف الثلاثة الساخرين/ الهازلين موضوعاً لرؤيته. وهو كما يبدو يفترض أنهم كالدّجّالين الذين يُدركون أن ما يقومون به مجرّد تخريف لكنهم يبيعون بضاعتهم لتحقيق مآرب أكبر. وهو يصفهم بتهكم بالقول إننا حين نسألهم سؤالاً (في حد ذاته لا ينفع) إن كانوا يؤمنون بما يقولونه فكأننا نسأل إحدى المحاميات إن كانت تعتقد أن موكلها بريء أم مذنب.
فالسؤال يجب أن يكون مختلفاً وهو بشأن القدرة إن كانوا يستطيعون أن يصطنعوا الصدق كما هو شأن مندوبو المبيعات عندما تُوكَل إليهم مهمّة تسويق أحد المنتجات؟! لذلك هو يخرج بنتيجة مفادها أن هؤلاء الهازلين أو الساخرين باتوا يتلاعبون بمصائر الأمم والشعوب بعد أن كانوا هامشيين لا وزن لهم طيلة الـ 26 سنة الماضية حين اعتقد الجميع أن أولئك سيذوبون مكانهم.
وهو يُعدّد صوراً لذلك. في بريطانيا لم يكن يعتقد أحد أن أقصى اليسار (كما يراه) يمكن أن يهيمن على حزب العمال. وأن الحزب الجمهوري الأميركي لن يخرج من بطنه يمين «ترامبي» يأكله كلقمة سائغة. وكانت الرؤية أن ذلك وإن حصل (وفق التفكير التقليدي) فلن يسمح لتكوّنه وحدوثه أحد. لكنه اليوم أصبح واقعاً.فهيلاري كلينتون هُزِمَت أمامدونالد ترامب. وبريطانيا اختارت الخروج من الاتحاد الأوروبي.
ليس ذلك فحسب، بل كان «المجتمع المهذب» كما يُسمّيه كوهين يعتقد وعبر ساسته وكتَّابه أن أولئك الساخرين/ الهازلين (ومعهم المجانين/ المعتوهون والمتسلقون/ المتسللون) يمكن أن يُصرَفوا في البيع والشراء عند إتمام الصفقات الكبرى سواء بسبب الإرضاء أو تكملة النتائج. فكان رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون يعتقد أنه قادر على إرضاء اليمين في الاستفتاء. وأنه لا داعي ليسار الوسط بأن يقاتل أقصى يساره. لكن النتيجة بدَت مختلفة. فاليمين اجتاح كاميرون، وأقصى اليسار التَهَم يسار الوسط.
في لحظة من اللحظات كان الجميع يسخر من الأفكار الغريبة التي يتم الترويج لها من قِبَل البعض. لكن ذلك البعض وفجأة أصبح عرّاباً لمشاريع العالَم الكبرى ويقوده إلى حيث هو يريد. مَنْ كان يقول إن القطب المتجمّد لا يذوب، وأن البشر غير مسئولين عن الاحتباس الحراري، وأن الاتحاد الأوروبي لن يسمح للبريطانيين بأن يدفنوا حيواناتهم إلاّ بعد أن يرمدوها في الأفران مدة نصف ساعة على درجة 130 بات قائداً في الرأي العام وممن ساهم في تشجيع البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي.
والحقيقة أنه وعندما بدأت الأمور تأخذ منحىً جدياً من الموضوع بدأ الخوف يدبّ في أمثال هؤلاء. الصحافيون منهم قالوا إننا كنا نكتب ما يريده القراء. والساسة المشرّعون (هو يلوم أعضاء مجلس العموم الذين كانوا يعارضون الخروج من الاتحاد الأوروبي ثم وافقوا عليه) والتنفيذيون (وهو يلوم تيريزا ماي أيضاً التي كانت ترفض الخروج من الاتحاد كذلك ثم وافقت عليه) يقولون إننا ننصاع لما يقوله الشعب، وبالتالي لا يوجد مانع لدى هؤلاء في أن يُلقَ اللوم لاحقاً على الناس حين تقع الكارثة من دون أن يتم الحديث من الأساس عن وجوب طرح الآراء السليمة من قِبَل النخب التي من شأنها أن تشرح للناس المسار الصحيح. ثم يُعرِّج على التجربة ذاتها في الولايات المتحدة الأميركية.
في نهاية الأمر قد لا يجد هؤلاء المنتمون لـ «المجتمع المهذب» من خيار سوى ركوب موجة الجنون والسخرية والتسلل وكأنهم منها. وفي هذه فرصة للتأمل فعلاً في كيفية تعاطينا مع الأمراض الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تحوطنا. فحين نستخف ببعض الجنون والتخريف والسخرية من حولنا أو نعتقد أننا قادرون على شرائهم أو صرفهم كخردة فإن الخطأ يركبنا حتماً. فالخطوة الأولى والمهمّة هي ليس الاستخفاف بل القضاء على تلك الأنماط الشاذة التي تهدد كل شيء.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5287 - الأحد 26 فبراير 2017م الموافق 29 جمادى الأولى 1438هـ