عندما نسمع عن القرى النائية قد لا يخطر لنا أننا نعيش في البحرين التي هي قطعة صغيرة من اليابسة يمكن لمن يركب سيارته أن يقطعها شمالا وجنوبا، شرقا وغربا في سحابة يوم واحد.
وعندما نسمع عن قرى ومناطق تخلو من الخدمات، وتعيش فترة ما قبل الطفرة النفطية التي استفادت منها معظم مناطق البحرين فإن العجب كل العجب ينتابنا حينها.
هذا ما حدث عندما قمنا بزيارة قرية الهملة التي ربما لم يخطر ببال من أطلق عليها هذا الاسم أن يضيف إليها حرف «الميم» لتغدو اليوم قرية «المهمَلة».
فهذه القرية ـ موضوع زيارتنا اليوم ـ لا يمكن للبعض تخيل كم الفقر الذي يعيشه معظم أهاليها، والمعاناة اليومية التي يقاسونها في سبيل أن يبقوا في عداد بشر هذا القرن، وليسوا من القرون السالفة.
فهذه القرية ربما شابهت الكثير في وضع القرى البحرينية، ولكن قبل خمسين عاما أو أكثر، فلا شوارع، لا مجاري، ولا أعمدة كهرباء في معظمها، والليل موحش فيها.
المواصلات لا تصلها، المستوصف أو المركز الصحي بعيد عنها، وأقرب مدرسة لها ربما على بعد خمسة كيلومترات، وهي المسافة ذاتها التي يقع عليها أقرب مركز صحي يمكن أن يخدم أهاليها.
أما بيوت القرية، فهي قصة قائمة بذاتها، فالعدد الأكبر من البيوت قد بنيت من الحجارة البحرية، وكأنها قامت قبل أن يدخل الطابوق إلى البحرين، ربما في الخمسينات من القرن الماضي، مما يدل على أن حركة العمران في القرية أبطأ منها في الكثير من مناطق البحرين الأخرى. وليست مواد البناء المستخدمة فقط هي المعضلة هنا، ولكنها أيضا المرافق الأخرى التابعة للبيوت، فلا حمامات ولا مطابخ في معظم هذه البيوت... فالطبخ يتم في أفران متواضعة لا تتناسب البتة مع ما يمكن أن يشاهدوه في التلفزيونات خلال رمضان من مطابخ الاستوديوهات، ومطابخ بعض البيوت الفخمة.
وعمليات الغسيل والنظافة إنما تتم في أرض «الحوش» بأنبوب مياه موصل بطريقة بدائية جدا لا تنم عن تواصل أصحاب البيوت وما يحدث حولهم من عمار وازدهار.
في تراثنا العربي، اشترى أحدهم دارا، ودخل إليها في اليوم الأول مع صاحبها، فسمع صوت اصطكاك خشب السقف، فسأل المشتري صاحب الدار عن مصدر السقف فقال له: «إن سقف البيت يسبح من خشية الله»، فرد عليه المشتري: «أخشى أن تنتابه رعدة فيسجد علينا».
هذا ـ تقريبا ـ ما يمكن أن يشعر به الداخل أي بيت من بيوت قرية الهملة، وليس هذا وحسب، فقد انهدم جانب من سقف أحد البيوت، وكان من حسن حظهم أن «سجود» السقف قد تم نهارا ولم يكن أحد من أهل الدار في ذلك الجزء تحديدا.
في بيت آخر، عائلة مكونة من 15 أو 18 فردا ينامون فيما يشبه الغرفة، غرفة واحدة فقط، وتجاورها غرفة لتربية الدواجن، التي منها يعتاشون، ومن نتاجها يأكلون.
رائحة الطيور كانت خانقة، ولا يكاد المرء يتماسك حين يدخلها لأول مرة لشدة الرائحة، فالمكان لا يصلح للبشر أن يقيموا فيه أبدا، ويحتاج إلى الكثير حتى يغدو صالحا للناس، أو يترك هكذا ليكون أكثر اتساعا للدواجن.
توجد ثلاجة... نعم، توجد ثلاجة، ولكنها مشتركة بين عدة أسر، يبردون فيها الماء ويحفظون فيها القليل من الطعام.
وفي الشتاء، تتحول القرية إلى وعاء طيني كبير، فما أن تهطل قطيرات المطر في الموسم الشتوي، حتى تغرق القرية في الطين، وتتخلف البرك والمستنقعات المائية، داخلة البيوت، مسببة الأمراض للبشر، بينما يجد الأطفال متسعا ومتسخا للعب في هذه المياه الملوثة.
كان البحر متنفس أهالي القرية ومصدر رزقهم، أسماكه كانت غذاءهم، وأحجاره سترهم وبيوتهم، وشواهد قبورهم، ولكنه اليوم بعيد عنهم، تفصلهم عنه أسوار الأملاك الخاصة، فلا يمكنهم أن يغسلوا همومهم في هذا البحر، ولم تعد الأسماك تخشى ورود أحدهم إليها طلبا للرزق.
أحد ملاك البساتين أقام مزرعة لمواشيه في قريتهم، فكان الأهالي يغارون من المواشي هذه لأنها أفضل حياة وسكنا من تلك المسماة «بيوتا» ويعيش فيها عدد من أهل القرية، فالأرض إسمنتية، والأبواب حديدية، والمكان في غاية النظافة، وتتوافر فيه الشروط الصحية.
عندما وضعنا رحالنا في القرية، كان بعض الأهالي يتوجسون خيفة منّا، «ما الذي جاء بهؤلاء؟... ماذا يريدون منّا؟... لم نر مسئولا لدينا يسأل عن أحوالنا وما الذي نحتاجه»... قلنا لهم: «لماذا لا تطالبون ببعض حقوقكم؟» قالوا إنهم ترددوا على الكثير من المسئولين، ولكن أحدا منهم لم يولِ شكاواهم أي اعتبار، ولم يتفضل أحد بمعاينة وضع القرية وأهلها.
أهالي الهملة يرقبون الألعاب النارية من بعيد تتلألأ في سماء بلادهم، وكأنهم ينظرون إلى شيء يجري في الطرف الآخر من العالم، لا يستطيع البعض منهم تخيل أن ينفق إنسان اعتيادي خمسين دينارا على مائدة عشاء لشخصين فهذا المبلغ يعد شطرا من راتب أحدهم، ويسد الكثير من الحوائج البسيطة لعياله بدلا من صرف ربعه في وجبة واحدة فقط.
ربما نتساءل: «على من يقع عبء هؤلاء البشر؟ من الملام في وصول حال القرية إلى ما وصلت إليه؟ وإذا كان الفقر قرين التعليم المتدني، فهل الخدمات الأساسية المفتقدة قرينة الإهمال غير المبرر؟»...
في الهملة تعيش حوالي 100 أسرة، أو ربما 500 شخص، يعيشون في مستوى لا يتلاءم وما تشهده المملكة من تعمير وتطوير في بنيتها، والمفارقة المضحكة المبكية أنها تقع خلف المركز الرئيسي لشركة البحرين للاتصالات «بتلكو» التي تفوق أرباحها السنوية أرباح البنوك التجارية الخمسة الكبرى في البلاد، فإذا كان تداخل «المقدس والمدنس» في بعض صنوف الأدب يعطي تلوينا إبداعيا فيها، فإن تجاور الفقر المدقع والغنى الفاحش يعمل على تعميق الإحساس بانقلاب نواميس الطبيعة
العدد 65 - السبت 09 نوفمبر 2002م الموافق 04 رمضان 1423هـ