العدد 5285 - الجمعة 24 فبراير 2017م الموافق 27 جمادى الأولى 1438هـ

بلغريف في البحرين... والحملة الفرنسية على مصر

رضي السماك

كاتب بحريني

في المقال السابق أشرنا إلى ثغرات في رواية الباحث الأكاديمي المحادين لتاريخ التعليم في المحاضرة التي ألقاها بمركز كانو، بعضها يعود لأسباب موضوعية وبعضها لأسباب ذاتية، ومن الأسباب الموضوعية غياب مذكرات أو شهادات موثقة لمديري ومديرات المدارس الأوائل كمصدر من مصادر رواية تاريخ التعليم، باستثناء شهادات عدد محدود جداً تناولنا في الأسبوع الماضي نموذجاً منها (تجربة زهرة مصطفى التي ساهمت في العملية التأسيسية لمدرسة جدحفص للبنات إحدى أول مدرستين تُفتتح في الريف العام 1958) وكتاب أسبق منه بعنوان «من وحي الأيام « لسكينة القحطاني، وهذا ما مكّن الباحث من الاستفادة منه لصدوره 1994، كما يعكف حالياً المترجم مهدي عبدالله على ترجمة مقالات تاريخية مُنتخبة من مجلات ومصادر الإرسالية الأميركية بعضها ذو صلة بمدارسها في البحرين، والتي استقطبت طلبة بحرينيين ذكوراً وإناثاً جلهم من الفقراء، وتنشر تباعاً مترجمةً في «الوسط «، ولعلها تشكل مستقبلاً مرجعاً مهماً من مراجع تأريخ التعليم في البحرين بكل روافده.

لكن الأهم من شهادات أو مذكرات مديري المدارس الغائبة هو شهادات مديري «المعارف» الغائبة أيضاً، والذين كانوا بمثابة وزراء التعليم في عصرهم، وهم كل من: العربي اللبناني فائق أدهم خلال الفترة (1930 - 1939)، والإنجليزيين الثلاثة: أدريان فالنس (1939 - 1942)، وروكلن (1941 - 1945) ، وويلي (1945) والذي لم يستمر في منصبه سوى بضعة أسابيع لمرض طارئ ألمَّ به، ويمكن أن نضيف إليهم غياب شهادة مديرة تعليم البنات الليدي بلغريف (زوجة المستشار بلغريف والمعروف بنفوذه السياسي القوي الممتد إلى داخل الإدارة التعليمية وتحديد سياساتها) على رغم توليها منصبها لما يقارب 20 عاماً، وقد عبّر المحاضر المحادين نفسه عن هذا النفوذ الطاغي للمستشار في كتابه الصادر عن وزارة التربية والتعليم بقوله «كان بلغريف يتدخل مباشرةً في شئون التعليم ويلقي بظلاله على كثير من مناحيه، سلباً وإيجاباً»، مُضيفاً «كما أجهض احتمالات كثيرة قبل أن تتحقق»، ووصف توجهات زوجته مديرة تعليم البنات بأنها صدى لتوجهاته، كما وصف آراءه وكتاباته في الشئون التربوية والتعليمية بأنها «ذات سمة هجومية عدائية». ومن المعروف أن شهادات المدارس كان يمضيها بلغريف، بل حتى شهادات ختم القرآن (القحطاني ص 25). وإذ يمكن فهم تولي زوجته هذا المنصب الحسّاس على رأس إدارة تعليم البنات بفضل نفوذه الكبير، فما لا يمكن فهمه تولي مديري المعارف الانجليزيين الثلاثة المشار إليهم آنفاً، في ظل وجود كفاءات عربية، لا سيما أن أحدهم وأولهم ألا وهو فائق أدهم هو لبناني عربي!

على أي حال ثمة جدل يتجدد بين الفينة والأخرى في أوساط نخبتنا السياسية والمثقفة بشأن تقييم الدور التاريخي الذي لعبه المستشار بلغريف رجل بريطانيا القوي غير المباشر في البحرين، ليس لدوره في تقرير السياسات التعليمية فحسب؛ بل وفي شتى السياسات العامة، ذلك بأن ثمة فئة قليلة عبّرت عن انبهارها بـ»عبقريته المعجزة» في تحديث وتطوير البحرين، فبحسبهم لولاه لما تقدمت البلاد ونهضت طوال مكوثه فيها (1926 - 1957)، أما الفئة الأخرى والتي تشكل الغالبية العظمى من تلك الأوساط فهي تعتبره إنما كان أميناً بالدرجة الأولى لسياسات ومصالح بلاده التي جاء منها، أو على الأدق للسلطات الاستعمارية البريطانية في الخليج العربي، وإن لم يتبعها رسمياً بصورة مباشرة. وهذا مانلحظه بالفعل، فهو طوال 3 عقود من وجوده في البلاد لم تتناقض سياساته أو تتصادم مع الانجليز قط، اللهم إلا تململهم الذي ظهر في أواخر خدمته إثر عجزه عن إخماد حركة «الهيئة» سريعاً أواسط الخمسينيات ومن ثم شعورهم بانتفاء الحاجة إليه.

والحق أن هذا الجدل يُذكّرني بجدل مشابه دار في مصر أواخر القرن العشرين بمناسبة مرور قرنين على الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1805) حيث احتفت بعض الأوساط السياسية والتاريخية بهذه المناسبة، باعتبارها عيداً علمياً حضارياً لما لهذه الحملة، بحسب وهمهم، من فضل على مصر في نهضتها وتحديثها على يد المحتل الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت وتحقيقه «انجازات» كإنشاء المطبعة والتنظيمات والدواوين الادارية الحديثة التي أقامها على غرار فرنسا، وانشاء المعهد العلمي المصري، وفك حروف حجر رشيد الهيروغليفية، وتدارس إمكانية شق القناة، وموسوعة وصف مصر، وغير ذلك من «الانجازات» غير المعهودة على المصريين.

وهنا أيضاً فإن الغالبية العظمى من المفكرين والمؤرخين المصريين سخروا من هذا الاحتفال، وحذروا من تصوير الحملة الفرنسية خارج سياق أهدافها ومآربها الاستعمارية التوسعية أياً تكن مراميها من تلك «الانجازات» الشكلية الطارئة، وإن فتّحت عيون المصريين على مابلغه الأوربيون من تطور علمي هائل.

والحال ان فات المنبهرون أن أي إصلاحات للمستعمِر الأوروبي سواء في البحرين أو مصر أو أي بقعة عربية تقريباً وإن بدرجات متفاوتة، إنما تقتضيها بالدرجة الأولى حاجته لتنظيم وجوده الإداري، لتسهيل عملية السيطرة على البلاد التي دانت له وشعبها بالقوة وفي حدود مرسومة بعناية، ولم يأتوا من أقاصي الدُنيا ويغامروا بأرواحهم وأموالهم من أجل سواد عيون هذه الشعوب والنهوض بها لتلتحق بركبهم الحضاري، وإلا فأين هي النُظم الديمقراطية الحقيقية التي استحدثوها في هذه البلاد؟ ولماذا لم يجد بلغريف، على سبيل المثال لا الحصر، عيباً في استغلال نفوذه لتعيين زوجته مديرة لتعليم البنات وهو القادم من بلد ديمقراطي؟ بل لم يكن أسلوب تعاطيه مع مطالب «الهيئة» المعتدلة ديمقراطياً أصلاً على رغم اتصاف احتجاجاتها في الغالب بالطابع السلمي.

إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"

العدد 5285 - الجمعة 24 فبراير 2017م الموافق 27 جمادى الأولى 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:34 ص

      اتمنيى انتتشكل هيئه او لجنه لدراسة تاريخ بلجريف في البحرين من جميع النواحي الايجابيه والسلبيه ومن مختلف وجهات النظر بحيث يتم دلك بصورة موضوعيه بحته . لا شك بأن بلجريف لعب دورا بارزا وعميقا ومؤثرا في تاريخ البحرين وأهلها ويعود الفضل له في الكتير من التأثيرات الأيجابه التي لاتزال ماثلة للعيان الي الان في مجالات التعليم والصحه والعمل والتجاره والصناعه . من المعيب ان ننسي انجازاته ولا نتدكره حتي ونحن نمر من خلال مبني باب البحرين الدي صممه وبناه . يجب ان نكون منصفين ونرجع الفضل لأهله .

اقرأ ايضاً