في قديم الزمان وتحديداً منذ 7 آلاف سنة، يحكى في صفحات التاريخ بأن الأمطار كانت تهطل سنوياً على أرض مصر في صورة فيضانات اعتبرها قدماء المصريين موسماً للزراعة والخير والرخاء، ويحكى أن فراعنتهم أبدعوا في تحويل كارثة فيضانات الأمطار إلى منجزات وابتكارات عبر إقامة حوائط لصدّ المياه، وما يشبه «الميازيب» لتصريفها من الأسقف حفاظاً على ألوان معابدهم، كما تفنّنوا في تشكيل الحوائط فنياً بأشكال حيوانات وما يشبه الممرات والأخاديد؛ كي لا تتضرّر جدران وأعمدة المعابد من تصريف المياه. ومن أشهر ابتكاراتهم «السد الحجري» الذي أقاموه في هيئة حائط أمام معبد الكرنك لصد الفيضان، وهو يعد من أقدم السدود في التاريخ القديم، واكتشفوا 400 متر منه حيث كان يحيط بمعبد الكرنك من مختلف الجهات.
تحبها تعمل لصالحها
في الزمن الحديث يحكي أن دولاً في العالم كان أناسها وقادتها يحبون بلدانهم ويعشقونها جداً ويعملون لصالحها قبل كل شيء، فأبدعوا وابتكروا في الأساليب والطرق التي تجنب بلدانهم كوارث سيول الأمطار والفيضانات، واستفادوا من النعمة المتساقطة عليهم من السماء، منهم الكثير من الدول الأوروبية التي تغلبت على السيول، فأبدعوا في هندسة شوارعهم وطرقهم بشكل مائل، مرتفع قليلاً بالمنتصف ومنخفض على الجانبين، وأقاموا على جانبي الطرق الواسعة والمنخفضة مصارف لمياه الأمطار، فيما يرثى إلى حال دول غنية تغرق طرقاتها وشوارعها ومنشآتها ومنازل سكانها من زخات مطر تتساقط خلال ساعات أو أيام، إما لعدم ملائمة شبكة المجاري لصرف المياه أو لعدمها أو لسوء هندسة الشوارع والإفتقار إلى التخطيط الهندسي السليم للمدن. والأسوأ منه استشراء الفساد والغش العمراني، وإهمال تحديث البنى التحتية وصيانتها.
في كل الأحوال تتعدّد الأسباب وتبقى كارثة هطول الأمطار بغزارة وتداعياتها تتكرّر سنوياً، بنفس الوتيرة وأكثر فأكثر، لاسيما مع التبدلات المناخية التي يشهدها الكون.
من التجارب الرائدة التي يُشار إليها في مواجهة غضب الطبيعة من عواصف وفيضانات الأمطار والسيول، حاجز التايمز لمواجهة المد العالي في لندن، والدفاعات والممرات المائية في مدينة فينيسيا الإيطالية «البندقية»، والقنوات المائية في هولندا التي تعرّضت لفيضان بحر الشمال بجزئها الجنوبي الغربي عام 1953. كذلك في النمسا التي طالما عانت من فيضانات نهر الدانوب، فحفرت مجرى جديداً للنهر، وكندا والولايات المتحدة وغيرها الكثيرون ممن أحبوا بلدانهم وأقاموا فيها منظومة من التحويلات والمجاري والسدود.
أما في الشرق الأقصى فالتقارير تشير إلى تجربة اليابان التي طوّرت أجهزة الفلك والطقس، فحوّلت سيول الأمطار إلى نعمة، خصوصاً وهم يمتلكون خبرة متخصصة وتراكمية في رصد المتغيرات المناخية والتحركات الزلزالية والبركانية منذ أكثر من مئتي عام، الأهم أن المعلومات والخبرة المتراكمة متاحة ومتوفرة للخبراء والباحثين وعامة الناس.
لقد وضع مهندسوهم خططاً لشق أنهار صناعية في كل المدن، وبما يتناسب والمعلومات التي بحوزتهم عن حجم مياه الأمطار التي تهطل على بلادهم وغزارتها، وحتى تكون الأنهار مصباً يستوعب الكم الكبير من مياه الأمطار ولتأخذ مسارها بعد ذلك للمحيط وتجنباً لإغراق الشوارع وتحولها إلى برك ومستنقعات تنتشر منها البعوض والذباب والحشرات. لقد شيّدوها من الأسمنت ويزيد عمق بعضها عن 40 متراً أو أكثر، وتم ربطها بشبكة مصارف منفصلة عن شبكة المجاري بالشوارع، كما استفادوا من تدفّق المياه بإقامة السدود وتوليد الكهرباء قبل وصولها للمحيط، أما الجزء الآخر من المياه فانتفعوا منه في زراعة الأرز.
المستور والمفضوح
في بلداننا لا شيء يحدث كهذا، وحين تهطل الأمطار بغزارة تتحوّل إلى كارثة، ويُختصر المشهد بما تتسبب فيه الأمطار من مستنقعات وأوحال وغرق للشوارع وإغلاقها حيث تتعطل حركة المرور بسبب تعرض السيارات للأضرار، ويزداد الازدحام ويُستعان بصهاريج شفط مياه الأمطار، ويتكرّر انسداد النفق بين عالي وبوري كما في كل موسم، ينكشف المستور والمفضوح سواءً في افتقار بعض المناطق لنقاط تصريف المياه أو لمشروع الصرف الصحي، أو بسبب سوء تخطيط البنى التحتية الذي أدّى لفيضان بعض شبكات الصرف الصحي كما حدث في مجمع السوق الشعبي بمدينة عيسى، التي سرّبت أسقف محلاته مياه الأمطار؛ ومنطقة سلماباد التي تحوّلت إلى بركة كبيرة من المياه الجارية مع قلة أو شح صهاريج شفط المياه، حيث يقول مواطن: «أما بالنسبة لصهاريج وزارة الأشغال فلم تأتِ لنا رغم كثرة اتصالاتنا بهم»، في الوقت الذي غرقت فيه منازل المواطنين في شتى المناطق، وامتلأت الطرقات اللصيقة بها بمياه الأمطار مخلّفةً الكثير من الأضرار. ويذكر مواطن آخر: «أن ليلنا طويل ومعاناتنا كبيرة ونحن نشاهد الأشياء الخفيفة تسبح في منازلنا، وتتحرك بفعل مياه الأمطار التي غمرت منازلنا بصحبة مياه المجاري، فهي تدخل من الأبواب ومن أرضيات المنازل بعد امتلاء الشارع الذي نطل عليه بالمياه»، وحين يئسوا اعتمدوا على أنفسهم وتكفّلوا باستئجار مضخات لشفط المياه.
ويلخص المواطن معاناته بقوله: «لقد عانينا كثيراً في هذا اليوم، وفي الليل استطعت سد الباب بالأخشاب وأكياس الرمل والطابوق، لكن مياه المجاري التي تخرج من الحمامات لم أستطع وقفها، وكذلك الحال بالنسبة لجميع جيراني.. لم تنتهِ المعاناة، فسنحتاج إلى وقت طويل للتخلص من الروائح وأساسات منازلنا تضرّرت وهناك خسائر مادية بسبب تلف الأثاث والفرش والأجهزة الكهربائية»، فيما تعترف إحدى الجهات الرسمية بأن كمية مياه الأمطار الضخمة والمتجمعة قد فاقت الطاقة والقدرة الاستيعابية لمناهل التصريف وشبكات المجاري.
والسؤال المنطقي يطرح نفسه: ماذا عن ماهية التخطيط العمراني وملاءمته لمتغيرات المناخ؟ ماذا عن الخطط والإجراءات الاستباقية وإدارة الأزمات؟ الأسئلة تتكاثر ولم يتبق للمواطن المغلوب على أمره بسبب انكماش حرية التعبير والتوجس من النقد المباشر، إلا الكوميديا والنكتة التي مارسها بجدارةٍ للتعبير عن سخطه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وللتندّر على ما آل إليه الحال مع أزمة هطول الأمطار التي تتكرّر منذ عقود، فلا ضير من الاستمتاع فوق سطح مياه الأمطار برياضة الـ»جت سكي»، أو التنقل الترفيهي بالقوارب في المستنقعات والبرك المائية بين المنازل، أو ممارسة السباحة وخوض مباراة كرة قدم بين فريقين متنافسين في ملعب امتلأ بمياه الأمطار، فكل هذا وذاك يختصر مشكلة باتت تتفاقم ولا حل جذرياً لها من أسف.
الخلاصة، أمام مخاطر الأمطار الغزيرة وما تخلّفه من معاناة صعبة للمواطنين، بلداننا بحاجةٍ إلى الاستفادة من تجارب دول العالم، ودراستها بجدية وعناية دقيقة وبما يتناسب وظروفنا البيئية والمتغيرات المناخية، وأن يصبح لدينا خبرة ومعرفة متراكمة للإستفادة من تصريف مياه الأمطار. والأهم وضع اليد على النواقص ومكامن الخلل ببعض من حسّ الضمير، وشيء من المسئولية الأخلاقية تجاه الوطن وناسه، ومعالجته بتحسين البنى التحتية وتحديثها كي تستوعب متغيرات المناخ والتخفيف من معاناة الناس، والاهتمام بتوقعات هطول الأمطار بغزارة وتكرارها ومقاربتها مع السجلات والبيانات السابقة والبناء عليها للحد من مخاطرها والتخفيف من أضرارها على المواطنين، وهذا يحتاج إلى عمل استباقي جاد بإعداد قوائم بمسارات مجاري مياه الأمطار، وتجمعها ومعالجة أوضاع هذه المواقع قبل حلول مواسم الأمطار، وفتح الطرق وإنشاء المصارف والتحويلات لتسهيل جريان مياه الأمطار، فضلاً عن صيانة شبكة الصرف الصحي وتحديثها.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5283 - الأربعاء 22 فبراير 2017م الموافق 25 جمادى الأولى 1438هـ
ما ينطبق على بلاد أخرى لا ينطبق على البحرين أبدا ، بلادنا مساحتها صغيرة جدا وهى أشبه بمدينة منها الى الدولة ولا يمكن إستغلال مياة الأمطار بها أبدا لأن خزين المياه يحتاج الى أماكن كبيرة
بمساحة معتبرة أيضا ولا يمكن تجميع مياه الأمطار هذه لأن معظمها يسقط في البحر ويكفي أن نعلم أن الطائرة ما أن تقلع حتى تكون خارج البلاد بأقل من نصف الدقيقة
الواحدة .
مقال رائع
وضعت النقاط على الحروف
ياليت يقراونه وزارة الاشغال والاسكان علشان يتعلمون من تجارب الآخرين بدل البربرة والردود الباردة
نحن لدينا كل شيء يصبح نقمة لأننا شعوب وحكومات لا تفكر في استغلال الثروات افضل استغلال فقد دمّرنا الثروة المائية والزراعية تباعا والثروة السمكية وجئنا لثروة البترول فأتلفناها واصبحت علينا وبالا .
فما بالك بنعمة المطر هل ستكون استثناء؟ ابدا مثلها مثل غيرها لم نحسن استغلالها بل لم نخطط لكي لا تصبح علينا نقمة
مقارنة ممتازة
ياليت يتعلمون من تجارب غيرهم بدل التبريرات والردود الجاهزة المعلبة على الكتاب
ببساطة لان عندهم مخ ....
ولانهم يحبون اوطانهم ونحن لا نحبها