من فوائد السفر أنه يجعلك تتأمل، تتعرّف على الحضارات والدول الأخرى وتفكّر فيما آلت إليه وما تجاوزته أو تجاوزها. يعينك على تخيل ما كان يجول هنا أو هناك، الخير والشر، الحزن والسعادة، الظلم والعدل.
يفتح السفر آفاقاً نحو كل ذلك وأكثر، حين يكون سفراً عادياً، فكيف به حين يكون سفراً إلى أماكن تحمل عبق التاريخ والتراث والحضارة؟
فأن تزور مكاناً كالـ«كولوسيوم» أو ما يسمى المدرج الفلافي الروماني الكائن في روما القديمة بإيطاليا، فذلك يجعلك تقف أمام حقب زمنية مختلفة في نظرة واحدة للمكان. تتذكر ما قرأت وسمعت وشاهدت عنه، وتتنهد: كيف لمكان أن يحمل كل هذا التاريخ وهذه الذاكرة؟
المدرج الذي يرجع تاريخ بنائه إلى عهد الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول تحت حكم الإمبراطور فلافيو فسبازيان، والذي يعد بمثابة العمل الأكبر الذي شيّدته الامبراطورية الرومانية، حيث يعتبر واحداً من أعظم الأعمال المعمارية والهندسية الرومانية. كانت ساحته تستخدم في قتال المصارعين والمسابقات الجماهيرية كالمعارك البحرية الصورية وصيد الحيوانات، إضافةً إلى استخدامه كساحة للإعدام وإعادة تمثيل المعارك الشهيرة والأعمال الدرامية التي كانت تعتمد على الأساطير.
كان الإمبراطور وأعضاء مجلس الشيوخ يجلسون في مقدمة الصفوف بالقرب من الساحة الرملية، بينما يجلس في الأعلى الطبقات الدنيا من المجتمع، ليشاهدوا عروضاً راح ضحاياها العشرات من المصارعين والوحوش ممن خسروا حياتهم من أجل متعة وترفيه الامبراطور والشعب في فترة من الفترات، ثم بات مكاناً لتعذيب المؤمنين بالمسيحية وإعدامهم في بداية عهدها هناك، وتحوّل بعد ذلك إلى مزارٍ مسيحي، تكريماً للأسرى الذين قُتلوا خلال السنوات الأولى للمسيحية. ولا يزال مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالكنيسة الكاثوليكية، حيث يترأس البابا درب الصليب في جمعة الآلام.
كان المبنى يعد أداةً قويةً في التحكّم في الحشود، بطريقة عرض مبهرة تتناسب وهيمنة روما على العالم، من غير الالتفات إلى مشاعر الإنسان فيها، وهو ما يجعلنا نتساءل: كيف يكون ألم مجموعةٍ من الشعب أداةً لترفيه واستمتاع مجموعات أخرى منه؟ إذ كانت المسابقات التي تقام على أرضه بين المتعاركين من البشر أو من البشر والحيوانات المتوحشة وسيلةً لتصفيق واستمتاع الجمهور من الشعب والامبراطور، ووسيلة لكسب الرهانات على الفائز منها والخاسر، وكأنهم مجرد أدوات من غير أرواح أو مشاعر.
هذا الجمود والتحجّر في الأحاسيس لدى المشاهدين والجماهير التي كانت تقدر بـ 50-80 ألف شخص، وهي سعة المدرج كما يتوقع لها، يبعث على التعجب، إذ كيف يصفّق شخصٌ ما لمقتل قرينه على الأرض مهما كان السبب؟ وهو ذات الحال حين كان المسيحيون يُعدمون ويُعذّبون في نفس المكان وسط تصفيق ورقص الجماهير التي كانت تحضر للفرجة والتسلية، في حين كانت قلوب أهاليهم ومحبيهم تذوب ألماً وحزناً.
كل هذا الذي يذكره التاريخ وتنقله الكتب، يجعلنا نتساءل اليوم: هل اختفت هذه المظاهر بالفعل من العالم، أم أنها اتخذت أشكالاً مختلفة تحت مسميات متغيرة في ظل وجود الاختلافات الفكرية والسياسية والأيديولوجية التي كشفت الهمجية التي نعيشها في كل الدول حين تصفق فئةٌ ما لجرح وعذاب وموت فئة أخرى؟
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 5283 - الأربعاء 22 فبراير 2017م الموافق 25 جمادى الأولى 1438هـ
قدرة الكاتبة على توضيف احداث الماضي على الواقع المعاش اليوم يدل على ثقافة واسعة وقدرة عالية ، سلم القلم وكاتبته
مقال جميل يدل على ذكاء الكاتب وقدرته على توظيف مشاهداته في الواقع
مقال جميل فعلا
روعة المقال .. جزء من ابداعات استاذة سوسن .. تسلم الايادي
افتقد كثيرا قصيدة 2225 الرائعة ...... مقال جميل يعبر عن رقي اديبتنا المحبوبة يجعل القاريء لا يمتلك القدرة على خط حرف فيها لدهشته