العدد 5283 - الأربعاء 22 فبراير 2017م الموافق 25 جمادى الأولى 1438هـ

6 سنوات على رحيل فارس من فرسان القصيدة النبطية عبدالله حمَّاد

غادرنا بتاريخ 30 يناير 2010م...

علي عبدالله خليفة
علي عبدالله خليفة

اكتفت ساحة الشعر الشعبي في مملكة البحرين بحفل التأبين الأول لرحيل الشاعر النبطي البحريني المتميز، المغفور له بإذن الله تعالى عبدالله حمَّاد، الذي غادرنا قبل سنوات، وتحديداً في 30 يناير/ كانون الثاني 2010، بعد معاناة مع مرض لم يمهله طويلاً.

حمَّاد الذي لفت الأنظار إليه منذ محاولاته الأولى، ومنذ نشر نتاجه الأول، أصبح - مثله مثل كثيرين من مبدعي أوطاننا - لم يكن النسيان ليستثنيه وسط جغرافية أبرز مواهبها النسيان. نسيان الذين كانوا القيمة - ومازالوا - والجرأة في الذهاب إلى الحياة كما النص بوعي كبير، والتزام يبعث على الضجر بالنسبة إلى كثيرين. الالتزام بالمعنى الحقيقي لتلك الحياة، من دون انفصال قيمة ذلك المعنى عن قيمة النص ومعناه بالضرورة.

حمّاد الذي أبصر النور في قرية دار كليب، وهي من المواقع التي تؤكد أكثر المصادر المتوافرة أنها كانت مسقط رأس الشاعر القتيل طرفة بن العبد، يعد واحداً من أهم شعراء النبط والشعر الشعبي في مملكة البحرين، بقدرته على الإمساك بدقة السبْك وجمال اللغة؛ علاوة على حدودها المفتوحة على التأويل، وعدم الاستسلام للنمطية التي رافقت النظر إلى القصيدة النبطية باعتبارها منغلقة على البيئة الواحدة، والأفراد الذين تتوجه إليهم، مع غليظ اللفظ ووحْشِيِّه مما يمتلئ به قاموس تلك البيئة، وخصوصاً إذا ما وقفنا على النماذج التي تحاول جاهدة - من دون أن تنجح دائماً - من أجل محاكاة النماذج التي تم تكريسها في تراث القصيدة النبطية منذ عقود طويلة.

سبق أن تناولت كتابة سابقة، ومن خلال ملفات تم تخصيصها للأصوات الفاعلة في الشعر النبطي والشعبي في مملكة البحرين، نشرت على صفحات ملحق الثقافة الشعبية في صحيفة «الوسط»، وتحديداً في ملحق «ريضان»، الذي تحول بعد ذلك على صفحة أسبوعية، لم يطل بها الزمن، أقول سبق أن تناولت كتابة سابقة تجربة حمَّاد، في محاولة لتقديم مقاربة لمشروعه، بعيدة عن الارتجال وحال الانطباع الذي وسم كثيراً من القراءات التي ركَّزت على الموروث الشعبي، وخصوصاً الشعر.

شاعر التأمُّل بامتياز

تقصَّت تلك الكتابة جوانب فنية لم يكن بمقدور تلك القصيدة أن تأخذ مكانها من الصدارة في مشهد القصيدة النبطية والشعبية لولا توافر قصيدته على بنية نصية، كثيراً ما تكون غير محدّدة سلفاً، بل تفرض الموضوعة (موضوعة القصيدة) واستواء الحالة الشعورية ونضجها، الاتجاه الذي يشكّل تلك البنية وإيقاعها ومفرداتها التي تبدأ في الانهمار بعفوية بالغة يمكن تلمّسها في العديد من قصائده.

في الكتابة نفسها التي نشرت في «الوسط» لمقدِّم هذا التذكير برحيل الشاعر حمَّاد إشارة إلى أن الشاعر حمَّاد «يكاد يكون واحداً من الشعراء القليلين في مملكة البحرين الذين تشغل تفكيرهم وهاجسهم الموضوعات التي تكتنز بمساحات من التأمل، موضوعات ترتبط بالوجود والنفس، وتشخيص المواقف، في الوقت الذي يكون فيه أبعد ما يكون عن الحالات الوعظية بانحيازه لمثل تلك الموضوعات وكأنه يستثقلها. وعلى رغم تميّز تجربته بالمساحات آنفة الذكر، إلا انه ظل وفياً لرومانسية ورهافة لا يمكن تجاهلها وغض الطرف عنها في كثير من موضوعاته المتنوعة»، ويمكن القبض على تلك الرهافة من دون ابتذال وتسطيح في الوقت نفسه. نقرأ في إحدى قصائده:

ما زادني غرور ورد (القطف) والوانه

كثرة غروري من جيوشٍ غزاها فرد

أصبحت والكون يحصي قفول بيبانه

وامسيت وقفول بيبانه تعيد الجرد

تشبه (تجرأ) حروفي شمس نعسانه

مغمور من عاش (كلمه) ما لمسها سرد

وذلك ما يعيدنا إلى استحضار أو استدعاء تلك الكتابة التي أضاءت مواضع من اكتناز نصوص حمَّاد بالتأمّل، بحيث يحق لنا أن نسمِّيه بالشاعر الوفي لتأمله، ففي كثير من قصائده يتحول التأمّل بالنسبة له إلى لعبة صعبة وممتعة في نفس الوقت، ويكشف عن صعوبتها تلك المزاوجة المدهشة بين الصورة والمفردة، والنقيض لهما، وما تحققه تلك المزاوجة من متعة لدى المتلقي لنصه، ما يدفع كثيرين الى تأجيل وأحياناً استبعاد الانشغال بالبحث واللهاث وراء المباشر من المعنى. بعد كل ذلك، يمكن القول، إنه شاعر التأمل بامتياز.

حداء ووحشة مدى

لم يُقدَّر لي أن أكون حاضراً أمسية التأبين وقتها، ولأن الزمن كان محاصراً بعاطفة الغياب، كما هو حال أصدقائه، آثرتُ الكتابة بعيداً عن المديح السطحي الباعث على الأذى. بعيداً عن الرثاء الرث. آثرتُ أن أراه... أتأمله من بعيد/ قريب. ألَّا تكون صورته لصق العين، فلن تتيح الوضعية تلك رؤية أساساً. كان الغياب هو النص الذي يجب الانتصار عليه بعد رحيل حمَّاد. هل تمكنَّا من ذلك. أكثرنا لم يستطع؛ بل على العكس، ثمة من لم يحتج أساساً لمناسبة رحيل مثل ذاك كي يتماهى مع النسيان، ويكون أحد رعاياه. كان يحضِّر توهُّم الغياب كي ينسجم مع حضوره الأكيد والضروري يوماً ما!

كتبت وقتها، نتحدثُ عن الغيابِ كأنْ لاَ أحدَ هنا. نتحدثُ عنه باعتبارهِ انفصالاً مادياً عن أرواحِنا ربما، وإلا ما الذي يجعلُ تلك الحاسةَ حاضرةً بهذه الشراسةِ المُحْرجةِ أخلاقياً؟

الذين نحبُهم يرفضون دائماً أن يكونوا وراءَ ذاكرتنا. إنهم ذاكرتُنا التي كثيراً ما تصاب بالعَطبِ، ونتأكدُ من عافيتِها حين يكونُ الذين نحبُهم أمامَنا كأنهم - بل هم كذلك - يسهرون على درسِهِم اليوميِّ. ليس لنا فحسب؛ بل للحياة نفسِها، وخاصةً حين يكونُ الأحبةُ من الطِراز الذي يأتي إلى الحياةِ بعفويةٍ بالغةٍ، ويعيشُها بعفويةٍ، وحين يدخلُ في وَرطته الجميلةِ (الشعر) يذهبُ إليها بعفويةٍ بالغةٍ أيضاً.

لم يكن شاعرَ مساحاتٍ مؤجَّرةٍ كما تُؤجَّرُ مصاطبُ في الأسواقِ الشعبيةِ؛ إذ الذاكرةُ الجمعيةُ الاستهلاكيةُ تذهبُ وفْقَ ذلك المفهومِ إلى إهدار القيمة. كان شاعراً من طِرازٍ فريدٍ ومُربكٍ ومُحْرجٍ وجارحٍ وصاعقٍ وراعدٍ وبارقٍ، وفي النهاية، كان بسيطاً كالماء، مفعماً بالأُنس، كحِدَاءِ بدويٍّ في وحشةِ مدىً، وشحِّ كلأٍ، وتناسلِ سرابٍ.

كان مفعماً بحريَّةٍ استثنائيةٍ أيضاً، لا عَبْرَ غنيمةِ الدواوينِ، لأنه كان يعي مقولةَ العربِ قديماً: «ما كُتِبَ قَرَّ وما حُفظَ فَرَّ». كان يُقِرُّ برفضه واختلافه، ولكن بأخلاقيةٍ عاليةٍ، وسموٍ ملْفتٍ، وحين ينتهي من كلِّ ذلك، يتفقَّدُ نصَّهُ المؤجَّلَ، إما لفِرْطِ مرضٍ أرادهُ أن يكونَ سراً مغلقاً على الأصدقاء كي لا يوسِّعَ رقعةَ وحشتِهم وعنائِهم فارتأى أن يصادرَ حِصَّتَهم من تلك الوحشةِ والعناءِ بنُبْلٍ بالغٍ. يضعُنا أمامَ قيمةٍ أخلاقيةٍ ملفتةٍ قبل أن يضعَنا أمام قيمةٍ إبداعيةٍ استثنائيةٍ، من دون أن يصرِّح بالقيمتين معاً.

نفتقدُه في ظل هَذَرٍ بالجُمْلةِ. في ظلِّ متطفلين على الإيقاع، عدا التطفلِ على الشعر، في ظل مخلِّصي نصوصٍ يكادُ أكثرُهم أن يزاحمَ بعض المخلِّصين الجُمركيين.

لحياتِكَ الأخرى مذاقٌ ورؤيةٌ وحِصةٌ وقيمةٌ واستثناءٌ نَغبِطُكَ عليها جميعاً، وأنت أهل لكل سمو.

الرحيل ونقص الجمال

الأصدقاء الذي أبَّنوه وقتها لم ينل النسيان منهم شيئاً، ربما لأن الغياب مازال أخضر كروحه. ربما لأن نصه الوثَّاب وبكل الحيوية التي يفاجئ بها قرَّاءه، كان قادراً - وما يزال - على الحيلولة دون أن يتأبَّد ذلك الغياب، وأن يكون عصيّاً عليه.

صحيفة «الوسط» كانت مواكبة لأمسية التأبين الذي أقيم في مركز كانو الثقافي، بتاريخ 11 مارس/ آّذار 2010، وتولَّى تغطيته وقتها الزميل حبيب حيدر الذي أشار فيها إلى أنه «برحيل شاعر الذهاب عميقا في اللغة والحياة عبدالله حمَّاد باتت القصيدة الشعبية تعيش فراغا لا يسده الاستعراض الأسبوعي من النصوص التي جلها فارغ ولا يحمل مدلول حياة وحيوية. كان شاعر المفارقات والوحشة والأمل والألم بامتياز».

الأمسية شارك فيها كل من: علي عبدالله خليفة، بدر الدوسري، وجعفر الجمري (بكلمة تأبينية ألقيت بالنيابة) محمد الصيادي، محمد الجلواح، أمير هلال، إبراهيم المقابي، فيصل المريسي، جعفر المرخي، إسماعيل عبدعلي.

الشاعر علي عبدالله خليفة رأى في الشاعر حمَّاد رجلاً بسيطاً «ولكنه كان كبيراً في معناه وأخلاقه هذا الشاعر يعتبر فقده خسارة وطنية لأنه من الرجال الكرام مع النفس مترفع عن الصغائر.. يتحلى بروح وطنية، وسيرة عطرة».

أما الشاعر بدر الدوسري، فذهب في اتجاه المجاز، رابطاً بين المكان (دار كليب)، وبين انتماء الشاعر إليه قائلاً: «إن الشاعر لا يموت، مبتدئاً بسلام يمتد من مدينة الشعراء دار كليب بن وائل التغلبي إلى كل بقعة لامستها حروف الشاعر عبدالله حمّاد وقصائده». مضيفاً «حين يرحل شاعر بحجم عبدالله حمّاد ينقص الجمال في الحياة، حين يرحل شاعر المسافات تخف كثافة الليل في الشعر والحياة، حين يرحل شاعر مثلث الروتين تصيبنا الوحشة بنصال الرماة، وحين يرحل لا نملك إلا الدعاء له حتى آخر دمعة وآخر صلاة، حين يرحل شاعر تحبه اللغة تقل المعاني وتفقد الكلمات دروبها إلى النقاء، حين يرحل أجمل وأنقى الأصدقاء... ينضج دمع تربى بالبكاء».

فيما قال الشاعر محمد الجلواح في كلمته التأبينية: «لقد عشت معه أفضل فترات سيرتي الشعرية وكان أن اكتسبت رضاه على مستوى الذائقة الشعرية وكان هذا الرضا بالنسبة لي وساما أحمله وأعتز به».

بدر الدوسري
بدر الدوسري
عبدالله حمَّاد
عبدالله حمَّاد
إبراهيم المقابي
إبراهيم المقابي
محمد الجلواح
محمد الجلواح




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً