عندما يقول المؤرخون «الحرب العالمية الثالثة»، تسترجع الذاكرة ما حصل في الحربين الاولى والثانية، ودرجت العادة ايضا ان تفسر الحرب الثالثة على انها الحرب النووية بين الجبابرة، فنحن، وكما يقال، نحضّر حروب المستقبل مستندين إلى صورة الحروب التي سبقتها. كانت الحرب الاولى حرب خنادق، دفاعية العقيدة. عليها بنت فرنسا استراتيجيتها العسكرية، فكان خط ماجينو الشهير، لكنها خسرت لأن الالمان ابتدعوا فكرة الحرب الخاطفة. بعد الحرب الثانية، دخل النووي، أو ما يطلق عليه «سلاح اللااستعمال»، ليفرض استراتيجيات جديدة قامت في مجملها على الدمار الشامل المتبادل.
واقترب العالم أو الجبابرة فعلا من الكابوس النووي مرات عدة كانت الازمة الكوبية اخطرها نظرا إلى موقع كوبا الجغرافي (القريب) بالنسبة إلى أميركا. وبسبب قصر مدة طيران الصواريخ النووية السوفياتية المنصوبة على الجزيرة التي لا تتعدى الدقائق الخمس، لتصل إلى كل المدن الاميركية خصوصا العاصمة واشنطن.
وايضا استنفر الجباران سلاحهما النووي خلال الحرب العربية - الاسرائيلية في العام 1973م.
ما المقصود بالحرب العالمية؟
تتميز الحرب العالمية عن غيرها من الحروب المحدودة بالامور الآتية: مدى اتساعها الجغرافي، الذي قد يشمل القسم الاكبر من الكرة الارضية، مستوى وحجم اللاعبين المشاركين فيها، وحجم الوسائل المخصصة لها.
سقط الاتحاد السوفياتي، تنفس العالم الصعداء لأن «الحرب العالمية الثالثة» اصبحت من الماضي. تفردت اميركا، وانفتح العالم على بعضه بعضا. وحلت المثالية والليبرالية لعقد من الزمن مكان الواقعية السياسية. وقعت حادثة 11 سبتمبر/ ايلول، تغير العالم، تبدلت السياسات الخارجية للقوى العظمى. وراحت الدول الباقية والمصنفة من الترتيب الثانوي تبحث عن دور لها، لتحمي رأسها وتستمر. وعادت الواقعية وشئون الامن القومي إلى الدول لتحتل مركز الصدارة في ممارسة العلاقات الدولية. اعلن الجبار الاميركي حربه على الارهاب لفترة غير محددة، وعلى مساحة الكرة الارضية كلها.
راحت الدول الكبرى الاخرى ترسم استراتيجياتها الامنية الكبرى على الشكل الآتي:
الانخراط في الحرب الاميركية على الارهاب، لإرضاء الديناصور الجريح (اميركا)، وتحقيق الاهداف القومية الامنية كأفضلية أولى. التمايز عن الاستراتيجية الاميركية في الامور الاخرى وعدم الذوبان وفقدان الشخصية. التمسك بشرعية المنظمات الدولية وعلى رأسها الامم المتحدة (مجلس الامن)، كونها المنبر الوحيد إذ تتعادل القوى بين اميركا وغيرها من الدول الكبرى الاخرى. لاميركا صوت وحق الفيتو. لغيرها ايضا الحقوق نفسها. اما ارض الواقع خارج هذا الاطار، فإنها تعكس الهيمنة الاميركية إذ لا يمكن لأحد ان يضاهيها عسكريا، حتى ولو تحالف الاعضاء الاربعة الآخرون الدائمو العضوية في مجلس الامن ضدها.
هل يمكن ان نسمي هذا الارهاب الجديد ونطلق عليه صفة الحرب العالمية الثالثة؟
نعم انها الحرب العالمية الثالثة التي لم يتوقعها احد. فهي تمتد على مسرح حربي يضم اكثر من60 دولة بحسب ما قاله الرئيس بوش في احد خطاباته الحربية. وهي تستنزف مئات المليارات من الدولارات. وتتطلب استراتيجية خاصة وقوى عسكرية من نوع جديد، كذلك تتطلب خطابا سياسيا فريدا من نوعه. ويبدو ايضا ان اللاعبين الاساسيين فيها من الوزن الثقيل في التركيبة العالمية. لكنها تختلف عن سابقاتها في عدة امور نأتي على ذكر اهمها:
1- خيضت الحروب السابقة من خلال تحالفات كبيرة. ضمت هذه التحالفات دول المحور من جهة، والحلفاء من جهة ثانية. تخاض الحرب الحالية في جو انقسامي بين حلفاء الامس. ويعود هذا الامر إلى الاختلاف في الادراك الحسي للمخاطر. ترى الولايات المتحدة ان ضربة 11 سبتمبر هي نقطة تحول في كل تركيبة النظام العالمي، ولابد من التعامل معها على هذا الاساس. ترى اوروبا، ان هذه الحادثة هي كغيرها من الحوادث الكبرى ولا يجب التعامل معها بصورة مختلفة. كذلك الامر، تخوض بعض الدول الكبرى الحرب على الارهاب بهدف المحافظة على وحدة اراضيها بعكس اميركا واوروبا. تندرج كل من الصين وروسيا في هذا التصنيف، وكذلك الهند، الديمقراطية الاكثر عددا في العالم. تريد روسيا الاحتفاظ بالشيشان ضمن امبراطوريتها، لذلك توافق اميركا في حربها على الارهاب. اما الصين، فهي تهدف إلى ضرب الانفصاليين في الاقليم الغربي، ولا تمانع في المطلق ما يقوم به «العم سام». تريد الهند ايضا ضرب الانفصاليين الكشميريين، من دون الدخول في الحرب العالمية الشاملة على الارهاب. إذا نستنتج ان هؤلاء الجبابرة هم ضمن التحالف الاستراتيجي مع اميركا في الحرب على الارهاب، لكن مع فارق جوهري هو انهم لديهم ارهابهم الخاص، الداخلي الذي لا يتعدى الحدود الإقليمية بعكس الارهاب بحسب التوصيف الاميركي.
2- اعلن الحلفاء في الحرب العالمية الثانية الشعار الاستراتيجي التالي «الاستسلام غير المشروط» قبل وقف الحرب. علما ان موازين القوى العسكرية بين المتقاتلين كانت متقاربة جدا. نعلن الحرب العالمية الثالثة على الارهاب الآن والعدو غير منظور، لا صفة رسمية له سوى انه يخالف كل ما انتجته النظريات في العلم السياسي. وهو عدو لا تنفع معه مفاهيم الردع المعتمدة بين الدول العقلانية، لذلك هو لن يرتدع، فتظهر بذلك معضلة تحقيق النصر. العدو الجديد لا يفاوض لانهاء الصراع، والحرب عليه لا تختتم بمعاهدة أو وثيقة استسلام، من هنا المعضلة الثانية التي تتمثل في عدم قدرة القوى الكبرى على قياس هذا النصر وتقديمه إلى المجتمع لتبرير الجهود المبذولة، والاموال التي تنفق. مع هذا العدو اللاتماثل هو الاساس. إنها الحرب بين الاكثر قوة والاكثر ضعفا. يندرج العدو الحالي ايضا ضمن تنظيمات في غالبيتها تقاتل الكفار تحت شعار الجهاد المقدس، وذلك على رغم ان الاهداف تختلف في بعض الاحيان فيما بينها. فالشيشان يريدون دولة خاصة بهم. اما القاعدة، فتريد القتال حتى النصر ضد الكفار اينما وجدوا. حققت اميركا نصرا كبيرا في افغانستان، لكنه يكفي ان تقع حادثة إرهابية عابرة بسيطة في اي مكان من العالم، كي تسقط الصورة الزاهية للنصر الاميركي. حدث هذا الامر عقب التفجير في جزيرة بالي في اندونيسيا، أو حتى مع حادثة القناص في واشنطن إذ ظهرت درجة المعطوبية الامنية للنسر الاميركي. في الحرب العالمية الثانية، استعمل النووي من قبل دولة ضد دولة اخرى، وانتج هذا الوضع الحرب الباردة.
يخاف العالم الآن من ان يُستعمل النووي من قبل هذا العدو غير المنظور ضد الدول الكبرى. من هنا كان خطاب دول محور الشر وعلاقته بأسلحة الدمار الشامل.
3- في الحروب العالمية السابقة، جندت الدول الكبرى امكاناتها لتحقيق النصر. تأثر الاقتصاد العالمي وسخرت المعامل للانتاج الحربي فقط. حاليا، تريد القوى العظمى وخصوصا اميركا، خوض الحرب العالمية الثالثة على الارهاب، وفي الوقت نفسه إبقاء الاسواق العالمية والبورصات مفتوحة للتبادل التجاري. من هنا نستنتج ان هناك تقييدات كثيرة على القوى العظمى في كيفية التوفيق ما بين الحرب والاقتصاد. وفي الوقت نفسه يسمح هذا الوضع للارهاب بحرية حركة ذات ليونة عالية. إن اية حادثة كالتي وقعت في بالي اندونيسيا، قد تؤثر سلبا على التبادل التجاري ما بين الشرق الاقصى، جنوبي شرقي آسيا وكل العالم الغربي. هذا عدا عن ضرورة تأمين حماية الخطوط البحرية، الامر الذي قد يرفع قيمة التأمين على السفن التي تعبر المضائق في تلك المنطقة. فلنتصور مثلا كيف اثرت سلبا بضعة كيلوغرامات من المتفجرات في السياسة الاقليمية الآسيوية، السياسة العالمية، هذا عدا عن المفاعيل السلبية على الاقتصاد والتجارة.
4- في الحروب العالمية السابقة، كانت الحروب والمعارك تقليدية. جيوش برية، طيران، بحرية وخطط عسكرية تطبق على مساحات معينة. وكان بالامكان غالبا توقع رد فعل العدو، او تصرفاته وذلك لأن قوانين اللعبة كانت معروفة من كل الفرقاء، خصوصا في مجال مبادئ الحرب. كان مثلا مبدأ حشد القوى من الامور الاساسية لتحقيق النصر، الآن، انقلبت المقاييس لأن الانتشار حل مكان الحشد. فالقاعدة مثلا ، كما تقول المعلومات الاميركية، على اكثر من 60 دولة. في الحرب العالمية الحالية، تبدلت كل المقاييس، واصبح لزاما على القوى الكبرى، تعديل العقيدة العسكرية، وتأليف القوى، بالاضافة إلى ايجاد الوسائل الكفيلة بتحقيق النصر على العدو الجديد. تقدمت القوات الخاصة على غيرها من القوى الثقيلة تقريبا (المشاة، البحرية). وحلت التكنولوجيا مكان الكثير من القوى التي كانت تهتم بالقيادة والسيطرة على القوى والعمليات العسكرية. ويذكرنا هذا الوضع بما بشر به وزير الدفاع الاميركي رامسفيلد، عن نيته إنشاء قوى خاصة تستطيع التدخل اينما كان لضرب الارهاب. هذا عدا عن إعداد القوى الاخرى لتستطيع القتال في المدن على رغم صعوبة وخطورة هذا النوع من الحروب.
فقد توقع الخبراء الديموغرافيون انه وخلال عقد من الزمن، ستحوي المدن ثلاثة ارباع سكان الكرة الارضية. وستشكل المدن والمناطق السكنية المسارح الجديدة للحروب المستقبلية. إذا في ظل هذا الوضع، تأتي المنظمات الاستخباراتية لتحتل مركز الصدارة في الحرب الجديدة. فإمكان ضرب العدو الجديد، يتطلب المعلومات اللازمة عنه. وتأمين المعلومات المستمرة عنه، يتطلب تحقيق التماس المستمر معه. من هنا تأتي اهمية الاستعلام البشري. بعد الحرب الثانية، وحتى حرب الخليج الاولى وبسبب الثورة في الشئون العسكرية توصلت اميركا وكثير من الدول المتقدمة التي تتجنب الخسائر البشرية في صفوفها إلى المبدأ القتالي الآتي: رأيتك اولا، اطلقت عليك النار اولا. ويسمى هذا المبدأ في الانجليزية (ئىْم فَل
ئُْهمُّ). يهدف هذا المبدأ إلى التقليل قدر الامكان من الخسائر البشرية عبر فك التماس مع العدو، أي القتال عن بعد. مع الحرب العالمية الثالثة على الارهاب، تبدل الوضع واصبح لزاما على القوى العسكرية الغربية إعادة التماس وانتظار الكثير من القتلى في صفوفها. وشكل هذا الوضع احراجا للحكومات الغربية بسبب الضغط الجماهيري عليها. فكلنا يتذكر كيف انسحب الاميركيون من مقديشو بعد مقتل 18 جنديا فقط، وذلك بعد ان بثت الفضائيات صور بعض الجنود وهي تجرجر في شوارع المدينة.
ختاما يمكن القول ان اشكال الارهاب بحد ذاتها تطورت ايضا مع مرور الزمن وتَبَدُّل الاوضاع. فالارهاب كان في السابق تقريبا علمانيا ايديولوجيا، يريد من خلال إرهابه لفت انتباه العالم إلى قضيته العادلة، كما يريد الكثير من الاعلام.
وكنا نرى سابقا خطف الاشخاص والطائرات. ومع الوقت، بتنا نرى الارهاب (بحسب التوصيف الاميركي) اكثر تديّنا وتطرفا وانتقل الامر إلى عمليات القتل الجماعي، وتمثلت حديثا في ضربة 11 سبتمبر.
وقد نصل في وقت ليس ببعيد إلى ارهاب يملك اسلحة دمار شامل. أفلا يستحق الامر وقفة صغيرة من الكبار لتشخيص سبب هذا الارهاب المقبل من الاحياء الفقيرة المعدمة، التي سار الغرب على اجسادها وحقوقها من دون أن يأبه بأجيال كثيرة؟
هذا ما نأمله، فلننتظر.
عميد ركن متقاعد، ومحاضر في جامعة سيدة اللويزة - لبنان
العدد 63 - الخميس 07 نوفمبر 2002م الموافق 02 رمضان 1423هـ