على رغم من الأقوال الرنانة والمواقف الاستعراضية التي يبدو أنها قد أصبحت السمة المميزة لشريحة النخبة في منطقتنا، إلا أن بعضهم قد سمح للابتزاز بأن يصبح جزءًا من نسيج مجتمعنا، والذي لا يعدو كونه مجرد تنمر طفولي مثير للشفقة. كما أنه حقًا أمر مخز ومشين. ومن أبرز الأمثلة على ذلك مساندة الدول الغربية القوية للأنظمة الحاكمة الهشة في محاولة عقيمة وضيقة الأفق لخلق «السلام العالمي».
لقد أثبت التاريخ مرارًا وتكرارًا، بل وعلى نحو عنيف في أغلب الأحيان، أن هذا المنهج لا يصلح إطلاقًا. إذ يؤدي دعم الأنظمة القمعية سعيًا لإشباع الغايات الوقتية إلى التضحية بالاحتياجات الأساسية طويلة الأجل لصالح الاستقرار قصير الأجل، ومن ثم يخلق بيئة خصبة لنمو التطرف والأفكار الراديكالية. وهو ما يشكل مأساة حقيقية في وقتنا الحاضر.
أما الأمر الأكثر مأساوية فهو لجوء البعض من نخب المنطقة إلى تطبيق نهج أكثر عملية على نحو فج، إذ يستغلون نفوذهم وسلطاتهم على مديري القطاع العام ومسئولي القطاع الخاص، بما في ذلك شركات المحاماة والخبراء ومكاتب التدقيق، بل وحتى الهيئات القضائية، من أجل اغتصاب الحقوق وابتزاز مبالغ مالية طائلة من الأفراد.
والأدهى من ذلك هو ادعاءاتهم الزائفة بأنهم يفعلون ذلك من أجل الصالح العام، لتصبح بذلك هذه المهزلة أكثر سوداوية بما لا يُقاس! وهو أمر مثير للقلق بشدة، حيث يؤدي إلى انزلاق مجتمعاتنا إلى حضيض أكثر تدنيًا وخطورة، ويدمر مصداقيتنا حينما نكون في أمس الحاجة إليها، كما يهدد بتحويل التحديات الهائلة التي نواجهها بالفعل إلى عقبات تعجيزية لا تُقهر.
وعلى رغم إدراك بعضنا أكثر من سواهم لمدى جدية التحديات الحالية والمستقبلية، إلا أننا نتفق جميعًا على أن الفشل خيار غير مطروح. كما يبدو أننا نتفق أيضًا على أن الوضع الراهن لم يعد مستدامًا، وأن إعلان المملكة العربية السعودية العام الماضي عن خططها الطموحة والثورية بشأن تنويع مصادرها الاقتصادية والتحرر من قيود النفط قد عبر ببراعة عن الروح التي تسود الأمة وتطلعاتها لمستقبل واعد.
فسرعان ما بدأت هذه الخطط في ترسيخ جذورها عميقًا على الصعيد المحلي، وحظيت بدعم إقليمي ودولي ملحوظ. كما كان من المثير للحماس مشاهدة ممثلي المملكة العربية السعودية وهم يستعرضون بفصاحة رؤية المملكة 2030 في منتدى دافوس 2017، وعلى إثر ذلك أصغى العالم أجمع وانتبه إلى خطط المنطقة ومستقبلها. إن العالم يراقبنا، علينا إذاً أن نكون أكثر حذرًا بشأن ما سنقوله أو نفعله في المرحلة القادمة.
فعلى سبيل المثال، لا بد أن نتخذ الخطوة المنطقية التالية بينما مازلنا قادرين على ذلك. وينبغي أن نقبل أنه في سبيل ضمان أدنى فرصة لتحقيق تطلعات أمتنا، لا بد لنا من وضع أطر قانونية صارمة ومستقلة لا يمكن لأصحاب النفوذ التلاعب بها أو تقويضها، وإلا فلا يمكننا أن نتوقع كسب ثقة المستثمرين العالميين أو نظرتهم لنا بجدية.
إن ما أتحدث عنه هنا ليس علم اقتصاد متقدم أو معقد، بل هو من أبسط قواعد المنطق السليم، كما أن من هذه القواعد أيضًا أنه لا يمكننا الاستمرار في تكميم أصوات المفكرين وتثبيط عزيمة المبدعين بينما نشجع ثقافة الخنوع والرضا بالوضع الراهن في الوقت ذاته، فلربما كان هذا هو أصل المشكلة.
أذكر أنه في منتصف تسعينيات القرن الماضي كنت قد حظيت بشرف تناول الغداء مع الكاتب العالمي المرموق ستيفن كوفي مؤلف كتاب «العادات السبع للأشخاص الأكثر فعالية» وصاحب الكتب الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة، وكان قد سافر إلى النصف الآخر من الكرة الأرضية ليقدم عرضًا إيضاحيًا أشرت أنا إليه بأنه يدور حول المنطق السليم الشائع وليس أكثر. فرد علي وهو يرمقني من أعلى بقامته الفارعة قائلًا: «بني، من قال إن المنطق السليم أمر شائع؟»
أتذكر هذا الموقف بجلاء، وكلما أمعنت التفكير فيه أدركت مدى بصيرته وفطنته. حقًا، المنطق السليم ليس سمة شائعة على الإطلاق. فإذا كان كذلك، لأدرك هؤلاء المبتزون مدى وضاعة جرمهم، ولم تكن المشكلة لتنشأ من الأساس.
إذا كان المنطق السليم سمة شائعة، لكنا قد أدركنا أيضًا منذ زمن بعيد أهمية خلق بيئة عادلة قائمة على أسس الجدارة، والتي تمنح للجميع فرصًا متكافئة للنمو والازدهار، كما تشجع الإقدام على المخاطر المحسوبة وتحمى الإبداعات.
لقد كانت هذه المبادئ من العناصر الأساسية في رؤية 2030 للمملكة العربية السعودية، كما كانت كذلك جزءًا من رؤية مملكة البحرين منذ عدة سنوات، ولكن جوهر النجاح يكمن دائمًا في التطبيق. فلا يمكننا أن ندعي ببساطة أننا نتمتع ببيئة خصبة للأعمال، بل علينا أن نثبت بالفعل أننا كذلك مرارًا وتكرارًا.
إن هذا هو السبيل الوحيد ليأخذنا العالم على محمل الجد، بغض النظر عن أعداد كبار المستشارين الذين يعملون لدينا، أو كم اللوحات الدعائية أو الإعلانات البراقة التي ننشرها. وينبغي على شريحة النخبة في المنطقة أن تبحث عن مواطن القوة وتعقد العزم على بدء ترسيخ الأساسات اللازمة لتطبيق بعض من الأفكار العظيمة التي لطالما تحدثنا عنها.
وفي الوقت الحالي، ومع كل هذا التقريع الذي ينهال على رأس الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لا يسعني سوى أن أغبط الأميركيين على صراع السلطة الدائر هناك، والذي يمثل أصدق شاهد على القوة الحقيقية للولايات المتحدة الأميركية، حيث تعتبر أمة مؤسسات استطاعت خلق نظام طبيعي من الضوابط والموازين الرقابية، ليس فقط من الناحية النظرية والكلمات المنمقة، بل كأمر واقعي ملموس.
وعلى رغم عيوبه ونقاط ضعفه الكثيرة، إلا أنه ما زال أمامنا مسيرة طويلة قبل أن نستطيع توجيه الانتقادات للغرب، بصرف النظر عن أقوالنا الرنانة ومواقفنا الاستعراضية.
إقرأ أيضا لـ "خالد جناحي"العدد 5282 - الثلثاء 21 فبراير 2017م الموافق 24 جمادى الأولى 1438هـ
كلام منطقي يعبر بدرجة كبير عن الواقع الحالي
سلمت يداك يا استاذ جناحي