العدد 63 - الخميس 07 نوفمبر 2002م الموافق 02 رمضان 1423هـ

الاتجاه المعرفي لمدرسة الإمام جعفر الصادق

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

كثر الحديث في السنوات القليلة الماضية عن امكانية الفكر الإسلامي مواجهة التحديات المعاصرة وإمكان تخليصه من الشوائب والمعوقات الموروثة. وفي هذا السياق برزت أسماء لمفكرين عرب ومسلمين حاولوا فهم مكونات «العقل العربي» و«العقل الإسلامي»، كمحمد عابد الجابري ومحمد أركون، وعبدالرحمن الطريري وغيرهم.

والحديث عن «العقل»، هو الحديث عن قدرة الإنسان إدراك الأشياء على حقيقتها، وقدرة الإنسان تحديد رأيه في موضوع من المواضيع. ويرتبط بمفهوم «العقل»، مفهوم «العقلانية» التي يقصد منها قدرة الإنسان على تحديد موقفه الفكري، وسلوكه تجاه قضايا الحياة الاجتماعية والمعرفة، وقضايا العلوم التطبيقية. فالإنسان يحقق هدف إنسانيته من خلال تحكيم نظام عقلي يقوم على مجموعة من المبادئ والمسلّمات والقوانين الأولية التي تتفق عليها كل العقول السليمة، وأن تلك المبادئ تتميز بالسمو والارتفاع، فوق الجزئيات، وفوق اعتبار الزمان والمكان. (انظر الطريري/ 1993).

ولو رجعنا إلى القرآن الكريم، فإننا نرى الكثير من آياته تتحدث عن صيغ مشتقة أو مرادفة لكلمة العقل مثل «كذلك يبين اللّه لكم آياته لعلكم تعقلون» (البقرة: 242)، و«النجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون» (النحل: 12). ومن هذا المنطلق تناول علماء المسلمين مفهوم العقل وعلاقته بالشريعة وناقشوا المواضيع التي طرحت أسئلة في غاية الأهمية مثل: هل أن الشرع هو أساس الإيمان؟ أم أن العقل هو الأساس؟ فكثير من أمور الشرع لا يمكن إثباتها بالحجة والبرهان، ولهذا فإن الإشكالية التي تطرح نفسها هي: هل الحجة والحاكمية للشرع أم للعقل؟

العلاقة بين الشرع والعقل مسألة تتعلق بموضوع المعرفة، لأن المعرفة هي الرابطة التي تصل الإنسان بعالمه الخارجي. ولولا المعرفة لظل الإنسان أسيرا لذاته مثل المخلوقات غير العاقلة. فالمعرفة هي التي تفتح عقل الإنسان على الطبيعة المحيطة به، وتفتح أمامه الأسئلة حول ما وراء الطبيعة. وعلى هذا الأساس فإن نظرية المعرفة لدى الفلاسفة تحاول تعريف الوسائل التي تزود الإنسان بالمعرفة وطبيعة القنوات التي تربطنا بالعالم الخارجي.

يتفق الفلاسفة المسلمون وغير المســـلمين على أن التـــكوين المعرفي يعتمد على نوعين أساسيين من العقلنة الإنسانية: الاستدلال والاستقراء.

الاستدلال يمكن الإنسان من استخراج النتيجة العقلية بالاعتماد على مقدمات نظرية معروفة ومقبولة. أما الاستقراء فيمكن الإنسان من الوصول إلى نتيجة عقلية من خلال تتبع الجزئيات باستخدام التجربة (المعتمدة على الحواس الخمس) للتوصل إلى حكم نهائي.

والفلاسفة الأوائل يرون أن اعتقاد الإنسان بشيء ما لا يمكن أن يكون يقينيا مطلقا ما دام هناك أدنى احتمال خطأ في المقدمات التي أوصلت إلى تلك النتيجة. ولهذا، فإن الشك اعتبر المحفز الرئيسي لتكوّن المزيد من المعرفة. وقد سعى الفلاسفة للوصول إلى العلم الأساسي والمعرفة التي لا تحتاج إلى دليل ولا تحتمل الشك للوصول إلى علم يقيني يمكن تأسيس العلوم والمعارف الأخرى عليه. وهنا يشير الإمام الصادق (ع): «أما إذا خرجت من الأفكار إلى منزلة الشك فإني أرجو أن تخرج إلى المعرفة».

لا شك أن وصول هذه الأفكار التشكيكية إلى المسلمين (بعد ترجمة الكتب اليونانية التي بدأت في عهد الإمام جعفر الصادق) كان لها أبلغ الأثر في دفع رواد الفكر الإسلامي لمواجهة الكثير من الإشكاليات التي طرحت نفسها على الساحة. ولقد ساعدت الأوضاع السياسية الإمام الصادق، كما عبّر عنه أسد حيدر (1969)، «بين شيخوخة الدولة الأموية وطفولة الدولة العباسية، إذ اتسع المجال للصادق لنشر العلم وبث الأحكام الشرعية والتعاليم النبوية». فبين ميلاد ووفاة الإمام الصادق في 702 - 765م، عاصر ثمانية من ملوك بني أمية واثنين من ملوك بني العباس. وبسبب تلك الظروف اشتهر الإمام الصادق في ذلك العصر واتسع ذكره وتوسعت مدرسته الفكرية التي كان يدرس فيها أربعة آلاف عالم، اشتهر عنها حرية القول وحرية النقض والإبرام في شأن الحقائق الدينية والعلوم الطبيعية.

وفي الوقت الذي ركز الفكر اليوناني على النظريات والعموميات والنهج الاستدلالي، كان الإمام الصادق يخضع بحوثه للنهج التجريبي معتمدا على القرآن الذي ركز على الاعتبار بالمحسوس المتمثل بالواقع، وحث على رفض المسلمات والعموميات التي تحكم مقدما على أي أمر واقع. ولذلك فإن مدرسة الإمام الصادق بالمدينة المنورة احتوت على علماء ومتخصصين في جميع المجالات العلمية المتطورة في ذلك الحين، مثل الفيزياء والكيمياء والطب وعلوم الجغرافيا والفلسفة، بالإضافة طبعا إلى العلوم الدينية كعلم الحديث والفقه.

يقول الإمام الصادق (ع): «اطلبوا العلم ولو بخوض المهج وشق اللجج»، ويقول لتلامذته «اكتبوا، فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا»، (انظر سليمان كناني/ 1991). هذا التأكيد على الجانب التجريبي والبحث العلمي المستمر، مكّن تلامذة الإمام الصادق من استيعاب الفكر اليوناني من دون الإخلال بمرتكزات الفكر الإسلامي. ولذلك فإن الإمام الصادق واجه المشاكل المطروحة في عصره حول الجبر والاختيار، والقضاء والقدر، بانفتاح وحرية لا زالت رمزا لكل من طلب الانعتاق من الأغلال.

فها هو الإمام الصادق يتحدث بطول نفس مع الزنادقة الذين لم يؤمنوا بالإسلام، ولا يغضب عندما يسأله أحد الزنادقة «كيف يعبد اللّه الخلق ولم يروه؟»، ويجيبه الإمام «رأته القلوب بنور الإيمان وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف، ثم الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصر العلماء على ما رأوه من عظمته دون رؤيته» (انظر الجندي/ 1977).

ولهذا فإن الإمام الصادق يقول «اطلبوا العلم، فإنه السبب بينكم وبين اللّه». ويؤسس الصادق نظرية عقلية بقوله «الحسن الجوهر هو العدل، لأنه علّة كل حسن، والجور هو القبح لأنه علّة كل قبح». وبهذا يتضح العمق الفكري والسياسي للصادق عندما يربط الظلم والجور بكل نتيجة قبيحة ويربط العدل بكل نتيجة حسنة.

على أن الإمام الصادق وقف موقفا رافضا لمبدأ «القياس» لأنه وجد ذلك تحديدا للمنهج الفكري الذي نشره بين تلامذته. فالإمام أبوحنيفة استخدم «القياس» كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي واستنبط أحكاما شرعية على أساس مقارنة حال معينة بحال أخرى. إذا كان القياس منصوص العلة فهو مقبول، أما إذا كان مختلف العلة فيرفض قبوله. بمعنى أن قياس الأحكام دون النظر إلى العلة مرفوض. فمثلا: علة تحليل الخمر هو الإسكار ولهذا فإن أي مسكر يصبح حراما. ولكن القياس الشكلي قد يؤدى إلى تحريم كل شيء يشبه الخمر وإن كان ليس مسكرا. وقد يحلل أيضا مسكرا لأنه لا يشبه الخمر الذي ورد ذكره في القرآن والسنة. ولعل من أفضل الردود المعاكسة لمنهج القياس ما ورد على لسان جابر بن حيان، تلميذ الإمام الصادق (ع) وأبي الكيمياء وصاحب أقدم مختبر كيميائي عرفه التاريخ. فالقياس يشبه «المجانسة» و«مجرى العادة»، ويشرح جابر بن حيان ذلك بالقول «ومن دلالة المجانسة دلالة الأنموذج كمن يريك بعض الشيء دلالة على كله، وهو استدلال وغير قاطع. إذ الأنموذج لا يوجب وجود شيء من جنسه يساويه تماما في الطبيعة والجوهر». (انظر الجندي/ 1977). ويشير إلى مجرى العادة قائلا: «وكذلك دلالة مجرى العادة، فإنه ليس علم يقين اضطراري برهاني أصلا، بل علم إقناعي يبلغ أن يكون: أجرى وأولى وأجدر لا غير. وليس في هذا الباب علم يقين واجب».

واستتباعا لذلك فإن الإمام الصادق علم تلامذته الأخذ بالدليل الاستقرائي لتحصيل المعرفة الإنسانية والكونية، معتبرا القرآن مصدرا إلهيا للمعرفة الدينية الموجهة للمعرفة الإنسانية وليست البديلة عنه. فجابر بن حيان هو القائل في حق الإمام الصادق: «وحق سيدي، لولا أن هذه الكتب باسم سيدي صلوات اللّه عليه لما وصلت إلى حرف من ذلك إلى الأبد». ويقول جابر مسترشدا بتعاليم الإمام الصادق: «اتعب أولا تعبا واحدا، واعلم. ثم أكمل، فإنك لا تصل أولا ثم تصل إلى ما تريد».

ويقول أيضا: «من كان دربا مجربا، كان عالما حقا، ومن لم يكن دربا لم يكن عالما، وحسبك بالدربة في جميع الصنائع، لأن الصانع الدرب يحذق، وغير الدرب يعطل». ويقول جابر «عملته بيدي وبعقلي، وبحثته حتى صح، وامتحنته حتى كذب». (انظر الجندي/ 1977).

إن هذا الفكر المشرق للإمام الصادق يدحض ما قاله محمد عابد الجابري في كتابه «تكوين العقل العربي» عندما ذكر: «أقرر أن الحركة في الثقافة العربية كانت وما تزال حركة اعتماد لا حركة نقل، وبالتالي فزمنها يعدها للسكون لا الحركة على الرغم من كل حركتها، والدليل أن الفكر الشيعي فقها وكلاما وسياسة اكتمل مع جعفر الصادق». ولابد لنا من الاعتراض على من يسمي فكر الصادق «شيعيا»، لأنه فكر إسلامي عام تعاطى مع مفردات المعرفة كافة كالكيمياء والرياضيات والفلك والجغرافيا وغيرها مما سجل له اعلام الفكر سبقه إلى هذه الميادين الواسعة الآفاق. الإمام الصادق كان قائدا إسلاميا تعاطى مع جميع المسلمين دون تفريق وفتح آفاق العلم مستلهما ما أنتجته الحضارة الإنسانية آنذاك ومطورا لها - بعد أسلمتها - ودافعا لها نحو التجديد المستمر والبحث المعتمد أساسا على المنهج التجريبي الاستقرائي، والمستلهم هداه من القرآن الكريم

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 63 - الخميس 07 نوفمبر 2002م الموافق 02 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 9:10 م

      رد

      ولماذا أخذ جعفر الصادق على أبو حنيفة لعمله بالقياس

اقرأ ايضاً