كشفت رواية «أيام الماعز» للكاتب الهندي بينيامين عن حالة قصوى لوضع لاإنساني تعاني منه العمالة الأجنبية العاملة في الخليج. تكثفت بين سطور الرواية صور كثيرة مؤلمة لسوء استخدام صاحب العمل «الأرباب» للقوة والقدرة، لممارسة القسوة الشديدة والعنف والجشع والاستغلال في أبشع صوره للعامل الهندي الذي رهن حياة أسرته وغادر بلده جرياً وراء حلم الحياة الكريمة في موطن النفط والرزق الوفير.
بغضِّ النظر عن واقعية القصة موضوع الرواية، أو إمكانية سعة خيال الكاتب للمبالغة في الانتهاكات التي ارتكبها صاحب العمل في حق العامل طيلة ما يزيد على ثلاث سنوات التي قضاها في مزرعته النائية، إلا أن القصص المتناثرة التي ترى النور بين الحين والآخر، ويسلط عليها الإعلام أضواءه تؤشر إلى أن النموذج الذي صورته الرواية لرب العمل ليس بعيداً عن الواقع.
الرواية هي عبارة عن سيرة ذاتية يشترك فيها بطل الرواية مع ملايين العمال الذين يأتون إلى الخليج سنوياً، تبدأ بالحلم بحياة كريمة، ثم بسيطرة الحلم بالقدر الكافي ليندفع العامل لتحقيق هذ الحلم مهما كانت الأثمان التي يدفعها مالياً واجتماعياً ونفسياً حتى يصل برجليه إلى قدر مجهول قلّما يكون قريباً من ملامح الحلم الذي جلبه إليه، وغالباً ما تكون سنوات شقاء يعاني فيها من قسوة أرباب العمل وعدم فعالية قوانين العمالة في البلدان التي يذهبون لها مما يلقيهم في دوامات شظف الحياة التي لا خروج منها إن أرادوا الوفاء بالديون التي أثقلوا كاهلهم بها في بلدانهم قبل مجيئهم، وبمتطلبات أسرهم التي تترقب ما يعوضهم غياب عائلهم بالإضافة إلى متطلبات معيشتهم؛ الأمر الذي يجعلهم صيداً سهلاً للوقوع في فخاخ تجّار البشر المتربّصين بهم.
حرص الكاتب أن ينحت لنجيب، بطل الرواية، شخصية مهذبة، مسالمة، صادقة ويستعين في تعامله مع الشدائد في فترة عمله بروحانية واضحة وإيمان شديد بالماورائيات والكارما، في مقابل رب عمل ماديّ، قاسٍ لا يميّز بين الإنسان والحيوان في مزرعته، ولا يتحرك قلبه لمعاناة نجيب من سياطه التي ينزلها عليه لترويضه كما يروّض الحيوان. لا يهمه فصل وليد الماعز عن أمه بعد لحظات الولادة الأولى، ويقف ببرود يشاهد عملية اخصاء التيوس بحد السكين، غير مكترث بصرخات الألم التي تملأ الفضاء وينخلع معها قلب نجيب.
حرص الكاتب أيضاً أن يقول إن من يأتي للعمل قد يكون فقيراً «مالياً» لكنه ليس بالضرورة انساناً معدماً جاهلاً، فعلى رغم بساطة السرد في الرواية إلا أن الكاتب اختار جُملاً عميقة المعنى لتصوير ما كان يدور في خيال نجيب كلما بلغ به الألم مداه واجتاز تحدٍ لا حدود له من قسوة الحياة. كأن يشبّه تدني أمنياته في نهار الصحراء الحارق عندما تاق لخط ظل تصنعه عصاه التي يهش بها على الماعز «تخيلوا عناء الرجل الذي أصبح الظل حلمه»، وكذلك عندما اختار «السجن رغبة منه في الحياة».
حملت الرواية رسالة مهمة للشعوب التي تستجلب العمالة من الدول الفقيرة للقيام بأعمال مختلفة نظير أجور محددة. ففي هذه البقعة من الأرض، غالباً ما تتحول هذه العلاقة إلى شيء آخر لا تشبه علاقة العمل التي تنظمها القوانين وترعاها المواثيق الدولية. فقد اجتمعت النظرة المجتمعية للعمالة الأجنبية، وخصوصاً تلك التي تشغل الأعمال المتدنية، بارتخاء القوانين التي تغطي هذه العلاقة، ويُرتجى منها أن توفّر الحماية اللازمة لشريحة كبيرة من العمّال الجهلة بحقوقهم وأحياناً كثيرة بواجباتهم. هذه العلاقة العرجاء بعثت العبودية في أسوأ صورها فلم يعد رب العمل؛ سواء في المؤسسة أو المنزل يميّز بين العامل والخادم والعبد. وأصبح ضمير «الأرباب» هو القانون الذي يحكم العلاقة وأصبحت جودة حياة العامل مرهونة بإنسانية هذا «الأرباب».
عبودية الخلاص
إن الحالات النفسية من يأس واستسلام وأمل وحلم التي تعاقبت على نجيب طيلة فترة عمله كانت وسيلة تأقلمه تارة، وتارة أخرى لخلاصه من الألم الجسدي والنفسي الذي كان يصل به إلى مدى يصعب احتماله.
علم النفس يقول، إن النقلة المفاجئة التي يتعرض لها العمال عندما ينفصلون عن مجتمعاتهم ويأتون إلى ثقافة جديدة ومسئوليات لم يسمعوا بها من قبل، كلها من شأنها أن تعرّضهم لاضطرابات نفسية، وتضاعفت هذه التأثيرات بسبب سوء المعاملة، أو عدم تفهم أرباب العمل! يعرضهم كل ذلك لما يسمى بمرض «الذهان»، وهو اضطراب نفسي أشبه بالانفصام يصاب به من يتعرض لضغط نفسي شديد.
عندما استقر وضع نجيب، وأيقن هول المسافات الشاسعة التي باتت تفصله ليس فقط مكانياً عن العالم خارج مزارع الصحراء القاحلة، وإنما أيضاً زمانياً فقد انقطعت كل سبل التواصل بينه وبين عائلته وزوجته. ترك الصدمة تأخذ مداها ليشعر بعدها أنه بات في عصر آخر غير ذلك الذي تركه في كيرلا، قال في وصف ذلك: «لا تهمني حياتهم ولا أحزانهم ولا آمالهم، كل تلك الخواطر أصبحت غريبة عليّ كما هي لميّت انتقل إلى العالم الآخر».
تولّد لدى نجيب، سريعاً، شعور الركون للعبودية واعتبارها الطريق الأسلم للحياة فأصبح تأدية العمل الشاق على أكمل وجه، وإرضاء «الأرباب» هو غايته. بدأ يخلق له مجتمعاً محيطاً كي لا يشعر بالوحدة، أصبح يتلذذ بأكل الشعير، يتحدث للماعز ويدلل صغارها وبحث في ملامحها عما يذكره بماضيه فسمّاها بأسماء معارفه وأطلق لمشاعره الاقتراب منها حتى انزلق إلى ممارسة غير سوية في علاقته بالماعز التي أسماها «بوتشكّار رمن» العاهرة المعروفة في قريته في كيرلا.
كان لتمسّك نجيب بالحياة وتصنيفه للانتحار بأنه قتل للنفس الواقع في دائرة حرامه، دور في إبقاء باب للأمل في نفسه مفتوحاً، يغذيه إيمانه بالكارما التي ينتظر أن تجد طريقها إليه جرّاء أعماله ونواياه الطيبة الكثيرة، وبين الظواهر الطبيعية التي تنبت الأخضر في الصحراء وتظهر الكامن من الجمال من تحت الأرض إلى سطحها في مواسم الربيع.
سيرة الصوت الواحد
«لكل تجربة في الحياة ذروتها» يقول نجيب الذي اعتاد في البداية على القسوة والألم حتى اعتاد عليه ثم أخذ يبنى غضباً ورغبة في الهروب من رتابة الجحيم اليومي الذي كان يعيش فيه فيومه طويل يعمل 17 ساعة في الرعي وتنظيف الحظائر في المزرعة ويلقى بنفسه على الرمل للنوم الساعات المتبقية. وجاءت لحظة الذروة عندما أبلغه زميل صاحبه حكيم الذي رافقه في أول الرحلة ثم افترقا كلّ في مزرعة وتحت إمرة أرباب لا يميزون بينهم وبين الحيوانات القائمين على تربيتها. أبلغه الصومالي إبراهيم القادري أنه يعرف الطريق وبإمكانهم الهرب.
أسماها لحظة النجاة أو الجنون عندما طار قلبه منذ سماعه قرار الهروب، فاختار لحظة النجاة التي تحققت بعد اقتراب حقيقي من الموت في الصحراء الحارة، مروراً بمجموعة من الأفاعي، ومشاهدته رفيق سفره الأول يحتضر ثم يموت عطشاَ وجوعاً في منتصف الطريق. أوصله الحظ إلى بيت أحد التجار البوذيين العاملين في السعودية. ومنه إلى طريق الخلاص.
الرواية كنص من الممكن تصنيفها في فئة السيرة الذاتية ذات الصوت الواحد، إذ سرد نجيب ما رأته عينه في خلال السنوات الثلاث والأربعة أشهر وتسعة أيام في المزرعة النائية وعلى يد أربابه القاسي. لم يوفّر الكاتب للآخرين صوتاً آخر وفرصة التعريف بأنفسهم في سياق الرواية. لغة كتابتها بسيطة ربما أسهمت الترجمة المتواضعة في إحداث عدم تناسق في السرد، إذ استخدم المترجم كلمات «قاموسية» غير متداولة فأحدثت خللاً في سرد الرواية البسيط التي تدور حول عامل وأثّرت على انسيابية القراءة. لكن الكاتب أبدع بأحداث الرواية المتسارعة، الصادمة بقسوتها في تصعيد عنصر التشويق من الصفحات الأولى حينما صور حالة الفزع التي أصابت صاحب نجيب عندما نودي باسمه ليستعيده «أربابه» إلى محتجز تعذيبه التي كان قد هرب منه. كان هذا كفيل بإبقاء القارئ متحفزاً ليعرف عن ذلك المخيف الذي كاد أن يقضي على الرجل وهو يعود اليه. ولم تتوقف الأحداث حتى الصدمة الأخيرة بانكشاف الخطأ الذي أخذ نجيب إلى قدر شخص آخر اسمه عبدالله. بطل الرواية أمضى أكثر من ثلاث سنوات متلبساً قدر إنسان آخر، كان اسمه نجيب في وثائقه الرسمية، و «أي شيء» وربما «لا شيء» منذ أن وطئت قدماه أرض أحلامه التي تحولت في تلك اللحظة إلى سراب.
هذا المشهد الأخير من الرواية كفيل بفضح لاإنسانية صاحب العمل عندما يكون العامل بالنسبة له بلا اسم وبلا هوية وبلا احتياجات إنسانية وحقوق عمالية. هو مجرد آلة بشرية وقودها 4 أقراص من الكوبوز (الخبز) وبعض من حليب الماعز وكسوة رثة تستره ربما هي الشيء الوحيد الذي يميّزه عن الماعز الذي كان راعياً له.
لا اعرف سر الاهتمام بهذه الرواية من حين لاخر نشاهد مقالة او تعليق عن هذه الرواية والتى لا نقلل من شأنها او القصة المؤلمة الا اني لا اجد مبررا لهذا الاهتمام الذي يكاد يكون معدوما في بلد الكاتب نفسه
بالعكس الرواية ذات شهرة عالمية وترجمت لأكثر من لغة.