كان من المفترض أن نواصل ما بدأنا به قبل أسبوعين، بشأن الايديولوجيا والتحولات الكونية، المشهد، لكن الرحيل المفاجئ للصديق العزيز رغيد الصلح، وتكريس الحديث السابق، وفاءً لسيرته العطرة، حال دون استكمال هذا الحديث.
نقطة الارتكاز في هذا الحديث، منذ البداية هي الايديولوجيا في علاقتها بالدورة التاريخية؛ ولذلك قدمنا بالحديث السابق، قراءة تاريخية بانورامية سريعة، تناولت المشهد السياسي منذ حركة اليقظة العربية، حتى احتلال أفغانستان والعراق. وخلصنا إلى سيادة فكر الجمود والتخلف، ومحاربة العمل، هي صنوٌ لحالات الانحطاط والتردي التي مرت بها الأمة، عبر تاريخها الطويل. وأن ذلك الحال، ليس مقتصراً على الواقع العربي، بل هو ظاهرة إنسانية عالمية.
مرت الأمة العربية، في تاريخها المعاصر، بعدة انهيارات. وفي كل انهيار تستدعي حيلها الدفاعية لتحقيق توازنها النفسي. كان ذلك قد حدث أول مرة بعد فشل ثورة عرابي في مصر، وتكرر بعد فشل ثورة 1919، التي عملت على تحقيق استقلال أرض الكنانة من الهيمنة البريطانية. وتكرر ثالثة بعد فشل مشروع اليقظة العربية، في الاستقلال والحرية وتحقيق الوحدة. ومرة أخرى، صُدم مشروع النهضة العربية بنكسة يونيو/ حزيران العام 1967؛ حين انهارت جيوش ثلاث دول عربية، أمام الهجمة الصهيونية، والتي نتج عنها احتلال شبه جزيرة سيناء، وهضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، وسقطت المدينة المقدسة، بيد الاحتلال الصهيوني.
ولم يكن البروز الكاسح للإسلام السياسي، في العقود الأخيرة، سوى تعبير عن حالة نكوص، وعن تداعي الحلم العربي اللذيذ في الحرية والانعتاق، والفشل المتكرر في مواجهة الغطرسة الصهيونية. وقد بلغت حالة التردي أوجها باحتلال بلاد النهرين، العام 2003.
في التسعينيات مارست الولايات المتحدة سطوتها وجبروتها على العالم أجمع. وكانت فترة ليس لها ما يماثلها في التاريخ الإنساني؛ ولذلك لم يكن لها أن تستمر إلى ما لا نهاية.
كانت المحطة الأولى، في تحدي الهيمنة الأميركية على العالم؛ قد جاءت من الحليف الفرنسي، والعضو في حلف الناتو، حين هددت فرنسا باستخدام حق النقض في مواجهة أي قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي، في مطلع العام 2003، يجيز للولايات المتحدة احتلال العراق.
ثم بدأت الحوادث تتداعي، مقاومة عراقية تتحدى الاحتلال الأميركي للعراق، وحركات جهادية في أفغانستان، تتصدى لغزو أميركا. وروسيا تبرز من تحت الركام، بقيادة فلاديمير بوتين، لتبدأ صولاتها في الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفياتي، ولتعيد بناء ترسانتها العسكرية. وصعود كاسح للاقتصاد الصيني، وتأسيس منظومات إقليمية ودولية واقتصادية جديدة، في أميركا الجنوبية، وفي العالم لعل الأبرز بينها منظومتا «البريكس»، و «شنغهاي».
ثم جاء ما يسمى «الربيع العربي»، خريفاً قاسياً على المنطقة بأسرها. تغيرت أنظمة سياسية، من خلال الحركات الاحتجاجية، وصودرت كيانات. وكانت ايديولوجيا الإسلام السياسي، حاضرة في كل المواقع والميادين، وثكنات السلاح. بدت المنطقة تسير ركضاً نحو المجهول. وكانت الكُلَف عالية جداً، وقائمة المصروفات غزيرة، في العراق وسورية وليبيا واليمن... وأوضاع المنطقة بأسرها، باتت أسيرة الإرهاب والتطرف.
كيف نضع هذه الحوادث، في سياق التحولات الإقليمية والدولية؟!
الجواب ببساطة أن الكون لا يقبل الفراغ. وسيادة نمط التعددية القطبية في العلاقات الدولية، كانت فترة ترصين للعلاقات بين الدول، والمؤسسات الناظمة. كما كانت فترة الهيمنة الأحادية، فترة تجبّر وغطرسة، هيأت مقدماتها لهذا الانفلات والفوضى التي تعمّ منطقتنا الآن.
فترة الانتقال من نظام دولي إلى آخر، هي فترة انعدام التنسيق والترصين للعلاقات بين الأمم. وخلالها تعمّ الفوضى، التي تأخذ أحياناً أشكالاً إيجابية، وأحياناً أخرى، تأخذ أنماطاً تدميرية.
اتسمت فوضى الانتقال من نظام عصبة الأمم إلى نظام هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، بفوضى إيجابية، شهدت تصاعد أدوار حركات التحرر الوطني المطالبة بالاستقلال من الاستعمار التقليدي، وفي المنطقة العربية بشكل خاص من الاحتلالين الفرنسي والبريطاني.
وحين تأسس النظام الدولي الجديد، لم تمانع القوتان العظميان: الأميركان والسوفيات، من مواصلة حركات التحرر الوطني كفاحها؛ فقد رأت أميركا ذلك، فرصةً لإزاحة الفرنسيين والبريطانيين، عن المنافسة معها، وتطبيق سياسة الباب المفتوح التي بشّر بها الرئيس روزفلت، ورأى فيها السوفيات اتساقاً مع ايديولوجيتهم السياسية.
في هذه اللحظة، لا يبدو أننا أمام تسويات تاريخية سريعة. فالتسويات الكبرى، تتطلب حروباً في حجم تلك التسويات بين القوى الكبرى. والقوى المرشحة دولياً لملء الفراغ كثيرة؛ هناك روسيا والصين والهند، وفي القارة الأوروبية ألمانيا. وهناك من يطالب بإعادة تركيب هيكلية مجلس الأمن الدولي، على ضوء حقائق القوة الجديدة.
ولذلك من غير المتوقع أن يتوصل الكبار، في وقت قريب إلى توافقات وتسويات. وحين يستمر الفراغ، تستمر الفوضى، وتواصل طحالب الإسلام السياسي، (بدوغماها) المغرقة في التعصب، ونشر الكراهية، والعطش إلى الدم، لعب دورها التخريبي المدمر. إلى أن تتغير موازين القوى الدولية، بما يجبر الكبار، للجلوس على طاولة المفاوضات، والاحتكام مجدداً للقانون الدولي، ولمبادئ الأمم المتحدة، المستندة إلى احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شئونها الداخلية، وتحريم الاحتكام للسلاح في حل المنازعات الدولية.
عندها فقط، تتغير الدورة التاريخية من جديد، ويتأسس نظام دولي بديل، انطلاقاً من حقائق القوة الجديدة. وحينها فقط لا تعود الايديولوجيا، (دوغما) ومخزناً للحقد والكراهية، بل رؤية محددة للكون، وموقف من الأشياء تمدّ بقواعد من السلوك.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 5277 - الخميس 16 فبراير 2017م الموافق 19 جمادى الأولى 1438هـ