تبرز أهمية وصايا رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، من كونها تضع اشتراطات لحال الموائمة السياسية والدينية في لبنان، وهي اشتراطات تنبع من طبيعة التركيبة الدينية والطائفية، واذ تقف مطولا أمام تلك الإشتراطات غير المباشرة في صياغتها، انما تعمد الى إعادة قراءة بل قراءات تلك الفسيفساء المعقدة والإرث الذي تم تكريسه عبر عقود طويلة. ارث تراكم على مرحلتين... مرحلة الاستعمار الفرنسي ومرحلة الحرب الأهلية اللبنانية، وعبر كل مرحلة كانت التجاذبات الطائفية والسياسية تذهب عميقا نحو تفتيت بنية الدولة والمجتمع، الأمر الذي أوجد حالا من الترقب الحذر لحظة الإقدام على تناول الملف اللبناني.
عرف عن الإمام الراحل عمق رؤيته السياسية، مدعوما بمكانته الدينية والعلمية المرموقة كواحد من المراجع الدينية الفاعلة والمحركة ليس على مستوى لبنان وحسب، بل تمتد تلك الفاعلية والحركية الى أقطار عربية واسلامية عدة بل وتجاوزت ذلك نحو أفق دولي حظي به الرجل في الأوساط الدينية والعلمية والسياسية... فرضها الرجل عبر حضوره ومعايشته للواقع اللبناني وامتدادات ذلك الواقع عربيا ودوليا.
انبثقت رؤى الراحل للحال اللبنانية انطلاقا من «الكيان الشيعي» المعتدل الذي لايرى وجوده بمعزل عن الوجود الاسلامي والمسيحي على اختلاف تمايزاتهما الدينية والفكرية والسياسية والمنهجية. وفي دعوة صريحة أطلقها الامام في واحدة من وصاياه ... أكد ضرورة «أن لا يندفع - الكيان الشيعي - وراء كل دعوة تريد أن تميزهم تحت أي ستار من العناوين من قبل إنصافهم ورفع الظلامة عنهم ومن قبيل كونهم أقلية من الأقليات لها حقوق غير تلك الحقوق التي تتمتع بها سائر الأقليات».
ويمعن الإمام الراحل في تشخيصه لحال هذا الجزء من الكيان اللبناني بتوغله وتسليطه الضوء على تفريعات جهوية تقوم هنا ودعوات لإرساء كيان مستقل هناك بقوله «برزت ظاهرة في دائرة الشيعة العرب بشكل خاص وبدائرة الشيعة بوجه عام، وهي انشاء تكتلات حزبية وسياسية بوجه خاص لغرض المطالبة بحقوق الشيعة أو اظهار شخصية الشيعة أو الدفاع عن حقوق الشيعة، وهذه التكوينات - بحسب رصدنا لما آلت اليه - لم تؤد الى أية نتيجة تذكر، بل أدت الى كثير من الأزمات وعمقت الخوف والحذر وسوء الظن والتربص في أنفس بقية المسلمين».
من جانب آخر، وقفزا الى فترة تاريخية شهدها لبنان بتبلور وقيام كيانات شيعية مندمجة مع الأحزاب العلمانية (الشيوعي، الاشتراكي، القومي السوري الاجتماعي)... بل وتعدى ذلك الى انخراط في الأحزاب المسيحية الطائفية (الأحرار، حزب الكتائب)... يدلل الشيخ على ان «خروج الشيعة في نخبتهم الى الفكر الحديث والى الحياة الحديثة والى محاولة الخروج من دائرة الحرمان، لم يكن على قاعدة التشيع وانما كان على قاعدة الحداثة. ولم يفكر أحد - الا قليلا فيما أعلم - أن يعيد تكوين الشيعة ويعيد دمجهم في المجتمع اللبناني والاجتماع اللبناني عن طريق تصحيح الانتماء الى شيعتهم من جهة، وتصحيح انتماء الشيعة الى الوطن والمجتمع الوطني من جهة أخرى».
يصل الامام الراحل في وصاياه الى الهدف الذي من أجله قام المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى في لبنان في فترة تاريخية، كان لبنان فيها يمر بمرحلة مخاض على مستويات ثلاثة... الداخلي والعربي. والدولي من جهة ثانية... اذ جاء قيامه «ليكون تنظيما جامعا يجمع كل القوى الحية والمتحركة المكونة للجماعة الشيعية»، الأمر الذي خلق مع قيامه «آمالا كبيرة جعلت الشيعة يشعرون بأن أداتهم السياسية في الاجتماع اللبناني قد اكتملت وانها ستخلق حال التغيير على جميع المستويات، ولكن الواقع كان على خلاف ذلك». لماذا؟. يرى الشيخ شمس الدين ان ادخال الجسم النيابي الشيعي للمجلس النيابي - ادخال أعضائه أعضاء حكميين ومن غير انتخاب في جسم المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى «أدخل معه جميع انقسامات الشيعة الداخلية، بسبب تحالفات فئاتهم مع الأحزاب والطوائف الأخرى في صميم المجلس».
وبشجاعته المعهودة يعترف شمس الدين انه «قلما اتخذت قرارات جذرية في المجلس، وبعدما اتخذت فقلما كانت لها فاعلية تذكر على مستوى التنفيذ».
رافقت صفة الاعتدال الامام الراحل طوال مسيرته التي امتدت لأكثر من نصف قرن أو تزيد من العمل على مستويين من الاجتماع السياسي والديني، الا ان همه الرئيس انصب على قيام اجتماع لبناني له امتداداته العروبية التي آمن الشيخ بضرورة قيامها ضمانا لوحدته وتآلفه واندماجه لبنانيا، من دون أن يهمل بالطبع الاجتماع الديني الذى بدا أكثر تعقيدا ويحتاج الى مدى أطول لتحققه وتمثله .
فاعلية المسيحيين
ركز الامام الراحل في كثير من أطروحاته على ضرورة «الحرص الكامل والتام على ضرورة وجود وفاعلية المسيحيين في لبنان»... ولم تنطلق دعوته ورؤيته تلك بسبب من مجاملة أو حس انساني مجرد، وانما انطلقت بناء على حقائق موضوعية أساسية، اذ ان القضية ارتبطت بملف ظل عالقا ومثيرا للاسئلة ومثل ورقة ضغط استغلتها قوى أجنبية تتعلق بملف «مسيحيي الشرق» عموما، لذلك كان من وصاياه «ان مسئولية العرب والمسلمين في الشرق أن يشجعوا كل الوسائل التي تجعل المسيحية في الشرق تستعيد حضورها وفاعليتها ودورها في صنع القرارات وفي تسيير حركة التاريخ وان تكون هناك شراكة كاملة في هذا الشأن بين المسلمين والمسيحيين في كل اوطانهم وفي كل مجتمعاتهم».
لم يسلم الراحل من تكتل قوى ضد دعواته وانفتاحه الذي رأوا فيه خروجا على السائد وصدوعا بتداخل الهويات وذوبانها ضمن تفسيرات خرجت بها وقراءة للنيات عرفت عنها، الا انه ظل مؤمنا وواثقا بأن خروج لبنان من أزمته المزمنة يكمن في التأكيد على لبنان أولا... عبر تعايش سلمي لايلغي خصوصية أي دين أو أية طائفة من الطوائف.
الوصايا تضمنت موضوعات عدة منها موضوع الغاء الطائفية السياسية في لبنان، والأمانة العامة للقمة الروحية اللبنانية، والأمانة العامة للقمة الروحية الإسلامية، والجامعة الإسلامية في لبنان، اضافة الى الشيعة ومقولة الأقليات في الشرق. لم يمهل الأجل الشيخَ لإتمام وصاياه، اذ انتقل الى جوار ربه مساء الأربعاء، العاشر من يناير/ كانون الثاني سنة 2001م.
كتاب الوصايا قدم له الكاتب والناشر اللبناني المعروف غسان تويني، بكلمة مؤثرة تكشف عن عمق العلاقة التي ربطته بالراحل وجسدت صورة من صور التعايش والتآلف اللبناني الذي كان يطمح أن يراه ممتدا وقائما في روح وعقل كل لبناني مخلص لعروبته ومثله
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 61 - الثلثاء 05 نوفمبر 2002م الموافق 29 شعبان 1423هـ