مع فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة، ثمّ تعيينه الإعلامي المتطرف والمشجّع على «الإسلاموفوبيا»، ستيف بانون، لشغل منصب كبير المخطّطين الاستراتيجيين في «البيت الأبيض»، ازدادت نسبة القلق لدى العرب والمسلمين في الكثير من الولايات الأميركية، وخاصّة التي تنشط الآن فيها القوى العنصرية الحاقدة على الأميركيين الأفارقة والمهاجرين الجدد والمسلمين خصوصاً.
وما يحدث في الولايات المتحدة لا ينفصل طبعاً عن المناخ السلبي السائد في أوروبا ضدّ المهاجرين والمسلمين، والذي تضاعف وتعزّز بعد حدوث أعمال إرهابية في فرنسا وألمانيا وبلجيكا، وهي الدول التي تقود الاتحاد الأوروبي، وبعد تدفّق عشرات الألوف من المهاجرين واللاجئين من دول عربية وإسلامية.
لكن هناك في داخل الغرب قوى ترفض العنصرية، وتريد التفاعل الإيجابي مع المسلمين وترحّب بهم في أوطانها، كما هناك في داخل الغرب قوى تُسعّر العداء معهم. وهناك في داخل الغرب قوى تتصارع مع بعضها بعضاً، كما هناك في داخل العالم الإسلامي أيضاً حروب داخلية على أكثر من مستوى. أي، ليس هناك الآن جبهتان متّحدتان ضدّ بعضهما بعضاً: غربية وإسلامية، بل هناك كتل متنوعة وقوى متصارعة في كلٍّ من الموقعين.
ولقد مرّت الصورة المشوّهة للعرب والمسلمين في الغرب عموماً بثلاث مراحل، فهناك مرحلة ما قبل سقوط «المعسكر الشيوعي»، حيث كان التركيز السلبي على الإنسان العربي تحديداً (كهويّة قومية وثقافية دون التطرّق إلى البُعد الديني)، من خلال توصيفه عبر الإعلام وبعض الكتب والأفلام السينمائية بالإنسان الماجن والمتخلّف، الذي يعيش في بلدان صحراوية مازالت تركب الجِمال على رغم ما تملكه من ثروةٍ نفطية. وفي هذه المرحلة جرى تجنّب الحملات السلبية على الإسلام أو المسلمين عموماً؛ بسبب تجنيد المسألة الدينية الإسلامية في مواجهة «المعسكر الشيوعي»، كما حدث في أفغانستان ضدّ الحكم الشيوعي فيها، وكما جرى في تحريك جمهوريات إسلامية في آسيا ضدّ موسكو الشيوعية.
أمّا المرحلة الثانية، فقد بدأت بمطلع عقد التسعينات، واستمرّ فيها التشويه السلبي للهويّة القومية الثقافية العربية؛ لكن مع بدء التركيز أيضاً على الهويّة الدينية الإسلامية، حيث تجاوز التشويه العرب ليطول عموم العالم الإسلامي باعتباره «مصدر الخطر القادم» على الغرب و»العدوّ الجديد» له بعد سقوط «المعسكر الشيوعي».
في هاتين المرحلتين، لعبت (ولاتزال إلى الآن) الجماعات الصهيونية، وقوى عنصرية ودينية متعصّبة ومتصهينة، الدور الأبرز في إعداد وتسويق الصور المشوّهة عن العرب والإسلام. بدايةً، لإقناع الرأي العام الغربي بمشروعية وجود إسرائيل (مقولة شعب بلا أرض على أرض بلا شعب)، وبأنّ العرب شعب متخلّف ولا يمثّل الحضارة الغربية كما تفعل إسرائيل!. ثمّ أصبح الهدف في المرحلة الثانية (أي في مطلع التسعينات) هو تخويف الغربيين من الإسلام والمسلمين كعدوٍّ جديدٍ لهم، وفي ظلّ حملة واسعة من الكتابات والكتب والمحاضرات عن «صراع الحضارات»، وبشكلٍ متزامن أيضاً مع ظهور مقاومة للاحتلال الإسرائيلي بأسماء إسلامية.
المرحلة الثالثة ظهرت عقب الأحداث الإرهابية في (11 سبتمبر/ أيلول 2001)، وما لحق بها من أعمال إرهاب مشابهة في بلدان مختلفة جرت تحت أسماء جماعات إسلامية، وأصبح يُرمز اليها، اختصاراً لمفاهيمها وأساليبها، بجماعات «القاعدة» على رغم عدم تبعيتها لقيادة واحدة، وهذه المرحلة تجدّد نفسها الآن من خلال ما قامت وتقوم به «جماعات داعش» من إرهاب ووحشية في الأساليب تحت راية «الدولة الإسلامية»!
وخطورة هذه المرحلة الثالثة أنها حوّلت ما كان مجرد كتاباتٍ في عقد التسعينات عن «العدوّ الجديد للغرب»، إلى ممارساتٍ ووقائع على الأرض، كان المستفيد الأول منها إسرائيل والمؤسّسات الصهيونية العالمية، التي كانت تُروّج أصلاً لمقولة «الخطر القادم من الشرق»، والتي لها أيضاً التأثير الكبير على صناعة القرارات السياسية في أميركا والغرب.
لذلك، وضع من حكموا أميركا من «المحافظين الجدد» شعار «الخطر الإسلامي» منذ التسعينات ليُقبَل أولاً داخل أميركا والغرب قبل أيّ مكانٍ آخر، وليبرّر سياساتٍ وحروب لم تكن لاحقاً لصالح أميركا، ولا لدورها القيادي الأوحد المنشود، بل استفادت منها فقط شركات ومصانع ومصالح خاصة، إضافةً إلى ما جنته إسرائيل من توظيفٍ كبير لهذه السياسات والحروب الخاسرة. ولا شكّ أيضاً في أنّ أساليب الإرهاب والعنف المسلح بأسماء جماعاتٍ إسلامية، خدما بشكلٍ كبير هذه السياسات وإن تصارعا شكلاً معها في أكثر من ساحة!
أمّا على الجهة الأخرى من العالم، فنجد وضعاً مأساويّاً داخل عدّة بلدانٍ إسلامية، وهو ممزوجٌ معظم الأحيان بتدخّلٍ خارجي، تزداد فيه الانفعالات الغرائزية التي نراها تحدث بأشكال طائفية ومذهبية وإثنية يواجه فيها بعضُ الوطن بعضَه الآخر، وحيث هناك عربٌ ومسلمون يقومون بخوض «معارك إسرائيليّة» تحت راياتٍ (وطنيّة أو عربيّة أو إسلاميّة)، وهم عمليّاً يحقّقون ما كان يندرج في خانة «المشاريع الإسرائيليّة» للمنطقة العربية تحديداً، ومن سعي لتقسيم طائفي ومذهبي وإثني يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة.
ولقد أصبح العنف ظاهرة بلا ضوابط في المجتمعات العربية خصوصاً، ودول العالم الإسلامي عموماً، وهذا نراه الآن حتّى في مجتمعاتٍ سعت إلى تغيير الحكم فيها، بينما التغيير القائم على العنف المسلّح والقتل العشوائي للناس يؤدّي حتماً إلى تفكّك المجتمع، وإلى صراعاتٍ أهلية دموية، وإلى بيئة مناسبة لنموّ واحتضان جماعات إرهابية، وإلى مبرّراتٍ لتدخّلٍ إقليمي ودولي يُكرّس تقسيم المجتمعات والأوطان ويُدوّل قضاياها.
طبعاً تشويه الصورة العربية والإسلامية في الغرب، رافقته وترافقه، عاهات وشوائب كثيرة قائمة في الجسمين العربي والإسلامي، ولذلك فإنّ تصحيح الذات العربية، والذات الإسلامية، يجب أن تكون له الأولوية قبل الحديث عن مسئولية الغرب، علماً بأن العرب يتحمّلون – بحكم المشيئة الإلهية – دوراً خاصاً في ريادة العالم الإسلامي، فأرضهم هي أرض الرسل والرسالات السماوية، ولغتهم هي لغة القرآن الكريم، وعليهم تقع مسئولية إصلاح أنفسهم، وريادة إصلاح الواقع الإسلامي عموماً.
إنّ المناخ السياسي والثقافي والإعلامي في الولايات المتحدة، والغرب عموماً، هو جاهزٌ لكلّ عاصفةٍ هوجاء وأعاصير ضدَّ كلّ ما هو عربي وإسلامي، لكن للأسف، فإنَّ ما صدر ويصدر عن جماعات التطرّف العنفي وما يحدث من ممارساتٍ إرهابية هنا أو هناك، أعطى ويعطي وقوداً لنار الحملة على العرب والمسلمين أينما كانوا.
لكن هل يمكن تجاهل وجود أزمة حقيقية لدى الكثير من الشعوب الإسلامية، والتي يزدهر في أوساطها الفكر التكفيري القائم على طروحات حركات عُنفية، تستبيح قتل كل من يختلف معها دينيّاً أو مذهبيّاً أو فقهيّاً؟! بينما القتل العشوائي لناسٍ أبرياء هو أمرٌ مخالف للدين الإسلامي، ولكلِّ الشرائع السماوية والإنسانية، وهو، على رغم ذلك، يتكرّر في أكثر من زمان ومكان، ولا نراه يتراجع أو ينحسر، وهذا دلالة على انتشار الفكر المشجّع لمثل هذه الأساليب الإجرامية.
إنّ اتّساع دائرة العنف الدموي باسم الإسلام أصبح ظاهرةً خطرة على المسلمين أنفسهم، وعلى المجتمعات كافة التي يعيشون فيها. وهذا أمرٌ يضع علماء الدين أولاً أمام مسئولية لا يمكن الهروب منها، كذلك هي مسئولية الأهل في كيفية تربية أولادهم، كما هي مسئولية الكُتّاب والمفكريين والإعلاميين وكل المؤسسات الحكومية والمدنية في عموم العالم الإسلامي.
لذلك، فإنّ الموقف المبدئي الرافض لأساليب العنف في المجتمعات أينما كان هو المطلوب الآن، لا الاكتفاء بالإدانة النسبية فقط تبعاً إلى اختلاف المكان والمصالح.
إن الساحة الأميركية مفتوحة الآن لجماعات «السوء» لبثِّ سمومهم وأحقادهم على الإسلام والعرب، لكن أيضاً هي ساحة مفتوحة (ولو بظروفٍ صعبة) على «دعاة الخير» من العرب والمسلمين لكي يصحّحوا الصورة المشوَّهة عنهم وعن أصولهم الوطنية والحضارية. وكما هناك الكثير من الحاقدين في الغرب وأميركا على العرب والمسلمين، هناك أيضاً الكثيرون من الأميركيين والغربيين الذين يريدون معرفة الإسلام والقضايا العربية من مصادر إسلامية وعربية، بعدما لمسوا حجم التضليل الذي كانوا يعيشونه لعقود. فإذا كان الغرب تحكمه الآن حالة «الجهلوقراطية» عن الإسلام والعرب، فإنَّها فرصة مهمَّة (بل هي واجب) على العرب والمسلمين في الغرب أن يعملوا من أجل استبدال «الجهلوقراطية» الغربية بالمعرفة الفكرية السليمة عنهم وعن أصولهم الثقافية والحضارية.
إقرأ أيضا لـ "صبحي غندور"العدد 5275 - الثلثاء 14 فبراير 2017م الموافق 17 جمادى الأولى 1438هـ