العدد 60 - الإثنين 04 نوفمبر 2002م الموافق 28 شعبان 1423هـ

لا إثم في استخدام العقل

تعليقا على مؤتمر الفكر العربي

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

عند انتهاء المؤتمر الأول الذي عقدته مؤسسة الفكر العربي في القاهرة من 27 إلى 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حاولت أن أحدد ما هي القضايا الجوهرية اليوم التي تجمع هموم الأمة العربية فكريا وتم طرحها في المؤتمر الذي حضره الكثير من المهتمين بالشأن العام العربي، فوجدت أن القاسم المشترك الذي كان يجمع الصورة ويشكل اللون الخلفي لها والغالب هو موضوع الحريات، أو قل نقصها في عالمنا العربي المعاصر، وخصوصا الحريات الفكرية، فالفضاء العربي المعاصر جائع للحريات كمعدة فقير.

ففي الشق الاقتصادي الذي كان محوره التعاون العربي ظهر النقص في الحريات عاملا أساسيا في ضعف التبادل الاقتصادي البيني بين العرب، قال بذلك متحدثون ثقاة في الشأن الاقتصادي، إذ أن الدول العربية ترغب علنا في تعزيز التبادل الاقتصادي بينها، وتضيق بالقوانين عملا على الآليات المؤدية إليه، إما بسبب حماية المنتج المحلي وإما بتشديد القبضة الحكومية على الاقتصاد، بل لفت أحدهم الانتباه إلى قضية مهمة هي أن سبب نجاح السوق الأوروبية المشتركة من بين أمور أخرى، أنها اشترطت على الدول الراغبة في الدخول فيها أن تكون ذات (ديمقراطية حديثة) لهذا السبب تأخر دخول أسبانيا والبرتغال، وتتلكأ دول أخرى أوروبية اليوم على بوابة السوق المشتركة لذلك السبب، وهو النقص في الحريات العامة.

وفي التعليم تبين أن تخلف التعليم العربي أساسه نقص الحريات عند المعلم والمتعلم على السواء، وفي الموضوعات المتتالية التي بحثت في المؤتمر مثل موضوع المرأة وموضوع التوجه للديمقراطية، برز عامل نقص الحريات كمتغير يكاد ألا يكون شريكا له يقف عقبة في التقدم العربي إلى الأمام.

الحريات هي من جملة السهل الممتنع، فالكل يشعر بنقصها في شكلها المطلق عند الآخر ولكنه شعور منتم للآخرين، وليس للذات، فالتونسي مثلا يشعر بنقصها لدى الجزائري، والمصري يشعر بنقصها لدى الليبي، واللبناني يشعر بنقصها لدى القطري، ذلك على سبيل المثال لا الحصر، وهكذا تستمر الأطروحة في دورة لا نهاية لها تنبع من فضاء وتصب في فضاء آخر، ولكن لا أحد يريد أن يطلبها لنفسه أو يعترف بنقصانها لديه، لأنه إن فعل فعليه أن ينقد (نقص الحريات) في وطنه، وهنا نقع في حبائل المقولة الشهيرة إن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن كانت ناقصة أو معدومة لديه، فكيف يستطيع أن يطالب بها، انها حلقة مفرغة تضغط على المواطن العربي فلا يجد أهل النخبة لها من مخرج غير المطالبة بها للآخرين، وتجاهل المطالبة بها للنفس، لأن ذلك له ثمن وقليل من هذه النخبة على استعداد لأن يدفع، إذ أنه ثمن باهظ.

إلا أن الحقيقة تبقى ثابتة وهي أن الفكر العربي المأزوم في عصرنا وبالغ النقص في الحريات هما اللذان يعطلان تحقيق كل ما يريده ويرغب فيه الكثيرون من أهل النخبة العربية، فهذه النخبة أول من يعرف ويعترف بأن الأمم لا تنهض وتنفض عنها الغبار من دون نهضة فكرية، والأمم التي تتصف بالعجز الفكري غير قادرة على الفعل ولا حتى ردات الفعل وهي بالتالي لا تملك فكرا يقودها إلى الخروج من المأزق الذي تواجهه من جهة، ومن جهة أخرى فإن نقص الحريات هو الذي يفاقم الوقوف في المكان واجترار الماضي وإعادة الحديث في السائد والمكرر والنمطي كما يؤكد تعظيم الماضي الذي يتضخم في ذهن الشباب أن تكراره بحذافيره ممكن، مما يصبح معه الفكر مقولبا ومتجمدا بعيدا عن الزمان والمكان، يسمح فيما يسمح بتكوين بيئة تنتعش فيها دوافع الإرهاب الذي يؤلب بدوره على الأمة كل الشرور، فيزداد الفكر تأزما، إذ أنه قادر على أن يقدم مشروعا فكريا جديدا يتيح السبل للخروج من المأزق، بل ويشيع خطأ أن حل مشكلات اليوم هو بالعودة إلى أدوات الماضي التي حلت مشكلاته، وهو أمر يزيد الأزمة عمقا من دون أمل في الخلاص.

الإرهابيون وفكر الإرهاب المتوسع في الانتشار بيننا هو محصلة طبيعية لنتاج ممارسات متراكمة زمنا من اجترار الماضي الثقافي وإعادة إنتاجه من دون اجتهاد يذكر من جهة، وممارسات موغلة في التعسف بسبب نقص الحريات من جهة أخرى، فكان رد الفئة المتشددة هو الغلو الذي لا يعرفون غيره والذي قاد إلى المزيد من التأزم، ولكنه هذه المرة وبسبب العولمة، تأزم تجاوز الوطن إلى وضع دولي تضيع معه أبسط حقوق الأمة.

وإذا انتقلنا من العام إلى الخاص فليس من الغريب أو المدهش، على سبيل المثال أن يتزامن عقد المؤتمر الأول لمؤسسة الفكر العربي في القاهرة مع خطوة ملحة من الجماهيرية الليبية بطلب الانسحاب من الجامعة العربية ومقرها القاهرة، بسبب ما سماه بيانها الرسمي (عدم فاعلية عربية تجاه مسألتي العراق وفلسطين) في الوقت الذي تقام فيه في ليبيا «مسابقة جمال الإنترنت» وتتشرف ملكة الجمال الأميركية (بحمل جنسية الجماهيرية)! قد يبدو هذا الوصف سرياليا موغلا في سرياليته ولكنه جزء من الحقيقة الماثلة أمامنا في بعض منحنيات الفكر العربي التطبيقية اليوم، فمن جهة تُحمل (مؤسسة) ليس لها فاعلية وزر مجموع غير متوافق، في الوقت نفسه الذي تزاح عن كاهل عضو منها رغبة التفكير الجاد في المساهمة في الخروج من المأزق، ذلك مثل تجاوزه أمثلة كثيرة تختلف في الشكل وتتماثل في المضمون.

وفي لقاء جانبي مع أمين عام جامعة الدول العربية الذي جاء إلى منصبه بطاقته وأفكاره الجديدة في الوقت الخطأ والزمن غير الصحيح، قلت له من الأفضل أن تترك ليبيا لقرارها (الرشيد) بالخروج من الجامعة، لعله في الوقت القريب تتبعها بعض البلاد العربية حتى تتكون مجموعة خارج الجامعة تنشئ لها جامعة رديفة، وقد يفعل قانون التنافس فعله، الذي هو قانون الحركة في الاقتصاد، فقد يصبح صحيحا في السياسة أيضا، ولم يعلق الأمين ولم أزد بدوري.

لعل تجربة نصف القرن الماضية في الحكم الشمولي هي التي عطلت الفكر العربي عن النمو ومواكبة الصيرورة العالمية، فانتقلنا من ثقافة (قومية) شديدة التداخل بالحكم الشمولي المطلق، وهنا مثال آخر من مكان آخر، أنقل من ذكريات سياسي عراقي في الستينات والوزير الأسبق أحمد الحبوبي، إذ ينقل عن المرحوم عبدالسلام عارف أنه (يكره اسم الديمقراطية ويسخر من الانتخابات وقيام مجلس نيابي منتخب، وترتسم على وجهه ابتسامة عندما تحدثه في الموضوع ويقول بعد... بعد... وَكِت) وطبعا لم يأتِ الوقت حتى اليوم!

بعد الثقافة السياسية القومية ولجنا في شق ضيق يتحكم فيه شيخان للدين، واحد منهم كثير العلم قليل الإيمان بالحداثة، سوّق القمع وبرره بما يختاره من النصوص، وآخر كثير الإيمان قليل العلم بما يجري حوله، معادٍ للحداثة، وهما ليسا شخصين محددين، ولكنهما تياران وجدا الفرصة من خلال الصراع الدولي والمحلي أن يروجا فكريهما بما يملكان من أدوات نصية، فسببا ـ جزئيا ـ هذا المأزق الذي نعيشه.

لقد استخدم مفهوم الإسلام السمح استخداما تعسفيا وسوّق ثقافيا للتطرف من الجانبين، وليس غريبا مثلا أن يتحدث رجل مثل المرحوم سيد قطب في الستينات عما أسماه (الإسلام الأميركي!) معبرا عن ضيقه بأميركا، ثم يأتي شخص آخر مثل بن لادن ليتحدث عن هزيمة أميركا (بالإسلام)، وهنا يتحول فكر الأمة وعقيدتها إلى وسيلة لغايات في نفوس البعض! ولعل الاثنين يفسران لنا جزءا من مدرسة العلم والتبرير من جهة، والجهل والتنفير من جهة أخرى.

من هنا فإن مهمة مؤسسة الفكر العربي أكبر من أن تكون تجمعا غير واضح للمشتغلين بهموم الأمة، بل تتعداه إلى تكوين مدرسة حديثة تطلق البحث العلمي في جميع العلوم الدنيوية، فتبدأ بفتح ولو بوابة صغيرة للخروج من المحنة الثانية، باعتبار أن المحنة الأولى هي عندما أغلق باب الاجتهاد، واعتبرت العلوم بأنواعها بدعة واستخدام العقل إثما، وأصبح أي فكر يحمل اجتهادا دنيويا أو دينيا، فعلا محرما يستحق أشد العقوبات

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 60 - الإثنين 04 نوفمبر 2002م الموافق 28 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً