التحذير الذي أطلقه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عن مخاطر حكومة ارييل شارون الجديدة يجب أن تأخذه الدول العربية في الاعتبار. هذا لا يعني أن حكومات «اسرائيل» السابقة ليست خطيرة الا أن هذه ستكون الأخطر في تاريخ الدولة العبرية. فحكومة الاشرار هي نتاج لمنطق تطور التطرف الصهيوني من حده الأدنى إلى الأقصى. والتطرف في «اسرائيل» بلغ مداه الأعلى بعد أن وصلت الهواجس الأمنية إلى آخر حدودها والمخاوف من المستقبل إلى حد يدفع الجماعات العنصرية إلى الانتحار الجماعي مع محيطهم في وقت واحد. فالدولة الاسرائيلية هي تركيب سكاني أجنبي جاء من وراء البحار واستوطن بدعم أوروبي ولحسابات استراتيجية دولية في أرض ليست أرضه وطرد سكان الأرض واحتل منازلهم ومزارعهم. هذه حقيقة تاريخية وستبقى كذلك ولو بعد ألف عام.
وهذه الحقيقة يدركها الإسرائيلي ويتوارثها الحفيد عن الجد. ولذلك فإنه لا يصدق كل النوايا السلمية التي أظهرها الشعب الفلسطيني والدول العربية. فهذا الإسرائيلي استوطن منطقة ليست منطقته وأقام ثقافة مغايرة لمحيطه واستخدم القوة المعززة بالمال والسلاح (أوروبا وأميركا) والرجال (المهاجرون والمهجرون) لإثبات حق ليس حقه. هذه حقيقة تاريخية يدركها «الإسرائيلي» ويتوارثها الابن عن الأب. ففي داخل نفس كل «إسرائيلي» هناك حقيقة ينكرها عن طريق الاستيلاء والسيطرة. ولذلك مهما بلغت التطمينات العربية - الفلسطينية والاستعداد العام للقبول بالأمر الواقع فإن الشكوك تساور «الإسرائيلي» وتضعه في حيرة. هل ما يسمعه من مبادرات عربية سلمية هو حقيقة أو من الخيال. هل يحلم بالواقع أم أن الواقع لا صلة له بالحلم؟
هذه الحقيقة تؤرق «الاسرائيلي» وتضعه أمام مأزق تاريخي أو مفارقة تاريخية تفرض عليه التنازل عن المشروع الكبير (أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) أو الاستمرار في المشروع مستفيدا من الضعف العربي والغطاء الدولي.
هذه المفارقة هي أساس التمزق الإسرائيلي بين تطرفين: الأول يضغط في اتجاه القبول بالحدود السياسية للدولة، والثاني يضغط في اتجاه تجاوز الحدود السياسية وبسط «الدولة الموعودة» على امتداد النص التلمودي - الصهيوني.
وهذه المفارقة هي أساس التوتر الإسرائيلي بين مستوطنين:
المستوطن الأول الذي جاء مع الرعيل السابق منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى النصف الثاني من القرن العشرين، توطن الارض واكتسب نسبيا عاداتها وتقاليدها وتعرف على اهلها ولغتها يريد الاندماج أو على الاقل يريد المصالحة مع الواقع والمحيط.
المستوطن الثاني الذي جاء في ظروف دولية مختلفة ولحسابات مغايرة للموجات التي سبقته يريد الحرب لإثبات وجوده وصلاحيته للبقاء والاستمرار وكذلك يريد المزيد من الارض ويطالب بطرد من تبقى من اهلها ليؤكد هويته الخاصة والمستقلة وليثبت جدارته الايديولوجية بالانتماء إلى مشروع شارك في صنعه ولم يرثه عن غيره.
شارون، نتنياهو، ليبرمان (مثلا) يعبّرون عن مصالح موجات الاستيطان الثاني ويعكسون قلقها وتوترها ومخاوفها. حزب العمل (مثلا) يعبر عن مصالح موجات الاستيطان الاول ويعكسون احساسها بالاستقرار والعيش بهدوء من دون حروب توسع جديدة.
لذلك فالخلاف الذي وقع بين الطرفين على توزيع حصص الموازنة هو في جوهره يعكس الاختلاف السياسي بين موجتين من الاستيطان.
شارون يريد حصة من الموازنة لجماعته (المستوطنات) والعمل يريد حصة من الموازنة لجماعته (الفئات الاجتماعية المستقرة تقليديا).
هذا الخلاف في النهاية هو اختلاف بين اسرائيليين على رؤية مصلحة «اسرائيل» وحمايتها. فمصلحة «اسرائيل» عند الفريقين فوق كل مصلحة. الا ان العمل يريدها كما انتهت اليها بينما الليكود يريدها وفق مشروع ايديولوجي توسعي يرى ان هناك فرصة دولية - اميركية لتحقيقه، وادارة بوش الجمهورية المتطرفة موجودة الآن في البيت الابيض ويمكن ألا تستمر في السنوات الاربع المقبلة... لذلك يرى ضرورة اخذ زمام المبادرة واعادة تركيب حكومة من الاشرار منسجمة تماما مع مثلث الشر في واشنطن.
تحذير عرفات في محله وليس فيه مبالغة او مناورة. والسؤال: ماذا نفعل؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 60 - الإثنين 04 نوفمبر 2002م الموافق 28 شعبان 1423هـ