ما نشهده اليوم من وعي بالتراث العربي والإسلامي المخطوط وإعادة نشره يعود الفضل فيه إلى جهود المستشرقين التي بدأت بشكل فعلي في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حين بدأت عنايتهم بالدراسات العربية والإسلامية تأخذ طابع الحركة المنظمة.
وقد أخذ المستشرقون منذ ذلك الوقت بدراسة القرآن الكريم، وبعض الكتب العربية والعلمية، وأقبلوا على دراسة لغات الشرق كلها، وتكالبوا على جمع المخطوطات العربية والفارسية والتركية وغيرها، يشترون بعضها ويحصلون على البعض الآخر بطرق مختلفة، أو يقومون بنسخها، ونقلوا هذا كله إلى بلادهم.
وأياً كانت الغايات من وراء هذا الاهتمام، فقد أدّت هذه الدراسات إلى إنشاء الكثير من كراسي الاستشراق في الجامعات الأوروبية والأميركية والروسية، وأنشئت دور نشر تُعنى بكتب الاستشراق في ألمانيا وانجلترا وفرنسا وإسبانيا وغيرها.
ويعتبر محمد كرد علي (ت 1372 هـ/ 1953م) أن دور المستشرقين كان «من العوامل الكبرى في النهضة العربية» بما أحيوا من كتب العرب القديمة، وخدموها أجلّ خدمة بمعارضتها على النسخ المتعددة، وبوضع الفهارس المنوّعة لها، ومنهم تعلّمنا هذه الطريقة. واعتادوا أن يشرحوا غوامضها، فانتفعوا بما نشروا ونفعوا بما حوت من معارف كانت مجهولة. بل بهم تجلّت مدنية العرب لأول مرة؛ لأنهم طبعوا في القرنين السادس عشر والسابع عشر في إيطاليا وهولندا كتباً عظيمةً من تراثنا، كانت حجر الأساس في انبعاث العربية من رقدتها الطويلة، ويكفي أن نقول أن أوروبا طبعت كتبنا بالحروف العربية قبل أن تدخل الطباعة إلى القسطنطينية والقاهرة بمئتي سنة»!
وكان لظهور المطبعة في العالم العربي في العصر الحديث، وما صدّرته مطبعة بولاق الشهيرة في مصر من مخطوطات ومطبوعات في شتى التخصصات جابت أقطار العالم، أثرٌ حاسمٌ أيضاً في غرس البذور الأولى لظهور علم التحقيق في العالم العربي. ومع مطلع القرن العشرين كانت النهضة المصرية في عنفوانها، وكانت تناضل على كل الجبهات، فبدأت العناية بالتعليم وإحياء التراث وتحقيق ذخائره ونشرها على أسس علمية محتذيةً بمناهج المستشرقين وطرائقهم، وكان صاحب السبق أحمد زكي باشا (ت 1353هـ/ 1934م) الذي قام بتحقيق مخطوطتي «أنساب الخيل» و»الأصنام» لابن الكلبي عام 1914 في مطبعة بولاق، وكان عمله فاتحة تقدّم بما تعهده مصر في مجال التحقيق الأدبي من تحقيق النص، وضبطه والتعليق عليه وشرح غامضه وإلحاق الفهارس به، واستخدام علامات الترقيم الحديثة في الفصل بين جمله.
وكان للتجربة المصرية الرائدة في العناية بالتراث العربي تأثير طاغٍ غمر العالم العربي بأسره، وبدأت الدائرة تتوسع شيئاً فشيئاً، ومعه يزداد الاهتمام ويتسع، وفي البحرين كان أول المتأثرين بهذه الموجة هم طلبة العلوم الدينية الذين حملوا هذا الهَمّ تأثراً بالمشهد الثقافي الذي كان سائداً في إيران والعراق، وبدأ الاهتمام في بداية الأمر يأخذ شكل استلال أبواب معينة من كتب فقهية تعود إلى القرن الثاني والثالث عشر الهجريين والتعليق عليها وتقديم شروح لها، ثم تقدّم الأمر فيما بعد خطوةً إلى الأمام فأخذ بعضهم ينشر نصوصاً خطية تُطبع لأول مرّة دون تحقيق أو تعليق. أما في المرحلة الثالثة والأخيرة فبدأ التعامل فيها مع التراث المخطوط يأخذ صبغة احترافية بعض الشيء مع تفاوت في مستويات المحققين وأعمالهم.
ومن المشتغلين بالتحقيق من علماء الدين وطلبة العلوم الدينية السيد جواد الوداعي، والشيخ علي إبراهيم آل مبارك، والشيخ علي العصفور، والشيخ محمد عيسى المكباس، والشيخ عادل والشيخ حسن ابني الشيخ أحمد آل عصفور، والسيد محمود الغريفي، الشيخ فاضل الزاكي، والشيخ عبدالزهراء العويناتي، والشيخ محسن العصفور، الشيخ إسماعيل الكَلداري، والسيد فيصل المشعل، والسيد حسن علوي الدرازي، والشيخ حسن علي آل سعيد، وملا عباس عطية الجمري وآخرون.
وتزامن مع ذلك - وربما سبقه - تزايد اهتمام الوسط الأكاديمي بقضايا التراث والمخطوطات، عبّر عنه ظهور ثُلّة من حملة الشهادات الأكاديمية العليا من الذين خاضوا معترك التحقيق، مثل سالم عبدالله النويدري، وعبدالجليل العريض وحرمه أنيسة المنصور، وحسين السماهيجي، وعيسى جواد الوداعي، وهم في تزايد مضطرد. وقد غلب تحقيق التراث الشعري والأدبي والعناية بالجوانب اللغوية على أعمالهم، باستثناء النويدري الذي اتسمت أعماله بقدرٍ من الشمول وغطّت أعماله جوانب تاريخية أوسع.
وشاطر بعض المُهتمين من شرق الجزيرة العربية في القطيف أشقاءهم البحرينيين عنايتهم واهتمامهم بهذا التراث الذي يمثل بيئة جغرافية واحدة بكل ما تحمله من تداخل ثقافي وتاريخي وديني، فظهرت جهود علمية في مجال التحقيق والفهرسة للشيخ حبيب آل جميع، والشيخ مهدي العوازم، والشيخ ضياء آل سنبل، والشيخ مصطفى المرهون وآخرون.
وتواصل هؤلاء بشكل أو بآخر مع المحققين والمراكز العلمية في الخارج خصوصاً في العراق وإيران، وحدث بينها نوعٌ من التعاون العلمي، وكانت هذه الفئة على إدراك ووعي كامل بمستوى ما بلغته التجارب العربية والإسلامية في هذين البلدين بشكل خاص على مستوى العناية بالتراث وطرائق التحقيق ومناهجه، وكانت على تواصل مع كبار المحققين وأساطين هذا الفن كالسيد عبدالعزيز الطباطبائي (ت 1996م/ 1416هـ)، والسيد أحمد الحسيني الأشكوري، والسيد محمد رضا الجلالي وعدد لا يحصى من كبار المحققين الإيرانيين، وجميع هؤلاء كانت لديهم اتصالات ودراية كاملة بالوضع العلمي في مصر والشام وإيران.
وهذا الجيل شكّل في واقع الأمر الحلقة أو الطبقة الثانية من المحققين بعدما ورثوها عن الجيل الأول الذي كان من أبرز أعلامه السيد محسن الأمين (ت 1951م/ 1371هـ)، وآقا بزرك الطهراني (ت 1970م/ 1389هـ)، والشيخ عبد الحسين الأميني (ت 1970م/ 1390هـ) والسيد محمد صادق بحر العلوم (ت 1977م/ 1397هـ)، والمرعشي النجفي (ت 1411هـ/ 1990م)، ومحمد طاهر السماوي (ت 1370هـ/ 1950م)، والسيد محمد مهدي الخرسان (مواليد 1928م) وغيرهم من الذين أرسوا نهجاً لم يعهده الوسط العلمي في حينه، وكرّسوا الاهتمام بالتراث المخطوط سواءً عبر جهودهم البحثية ومؤلفاتهم، أو من خلال توفير البيئة الحاضنة والمحفّزة للباحثين الشباب الراغبين والقادرين على الدخول في هذا المعترك الصعب.
ولم يمنع اضطلاع بعض هذه الأسماء الكبيرة وتصدّيها لتحقيق جزء من التراث البحراني من ظهور بعض المبادرات الجديدة لذات العناوين اتسمت بنضج أكبر وبإخراج فني أكثر ضبطاً من تلك التي ظهرت قبل عشرين سنة؛ نتيجة للقفزة التقنية الهائلة التي ظهرت في عالم الكتب والمكتبات، وسهولة التبادل المعرفي بين المؤسسات والمراكز البحثية في العالم، وما تمخض عنه من ظهور مصادر خطية جديدة لم تكن متوفرة قبل سنوات قليلة.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 5274 - الإثنين 13 فبراير 2017م الموافق 16 جمادى الأولى 1438هـ
نشأت في الآونة الأخيرة مراكز حملت على عاتقها الاهتمام بالتراث تحقيقا وحفظا، مثل مركز الامام الصادق لحفظ تراث علماء البحرين، ومركز أوال للدراسات والتوثيق. ولم ار وجهًا لترك الاشارة لهما...(للحقيقة والتاريخ).