لقب «توليك» مشتق من اسم أناتولي، وهو اسم التحبّب. ولكل روسي، منذ طفولته، اسم تحبّب مشتق من اسمه الأصلي يلتصق به إلى أن يبلغ سن الرشد، ولدى البعض يظل اسم التحبّب متداولاً بين الأقارب طويلاً، ولدى البعض الآخر حتى الممات! أما في حالة بطلنا «توليك»، فإن اسم التحبّب بقي لاصقاً به وهو في سن الستين، على الأغلب، بسبب تشرده.
كان صديقي «حكمت» يحترم «توليك» ويهتم به جداً، وبإمكاني القول إنه كان يدلله، بعكس الروس الذين كانوا يحاولون قدر الإمكان تحاشيه. ويعطيه في أغلب الأحيان زجاجة فودكا مع «مازتها» من «كشكه» الصغير، أما في حال «جاهزيته» - كما يقول الروس، حين يصبح المرء ثملاً جداً -، فكان يمنحه مبلغاً من المال.
لقد أكد لي حكمت مراراً بأن «توليك» فيلسوف، ومثقف جداً، ويقرأ سقراط وتولستوي وتشيخوف وهوغو ونيتشه وغيرهم من الكتّاب والفلاسفة الروس والأجانب. وأنه تشرّد وأصبح يتسكّع في أرجاء المدينة بسبب الفودكا وإدمانه عليها وأنه باع شقته بمبلغ زهيد جداً ليلبي حاجته من الكحول.
قبل أن يروي لي حكمت قصة «توليك» بإيجاز، لم أتعاطف مع هذا السكّير، بل رحت أرسم له في مخيلتي صورة قبيحة وقاتمة، فتصورت بأن حياة «توليك» اليومية قبل تشرده كانت تقتصر على الكحول والنوم، فكنت، لا أدري لماذا، على يقين، معتمداً على خيالي وخبرتي، من أن «توليك» كان يشرب في البداية فقط لأن ذلك يعجبه أو أن أصدقاءه كانوا من السكّيرين وحذا حذوهم، لأن الصديق السكّير لدى الروس يعتبرك غريباً عنه ولست صديقاً ولا تحترمه إذا رفضت الشرب معه! فصديقك الروسي سيسألك وبيده زجاجة الفودكا ليدعوك للشرب معه: هل تحترمني؟، فستجيبه بلا شك: طبعاً، وبهذه الحالة، مهما كان مزاجك معكراً في تلك اللحظة، ستوافق!! وان تحججت لسبب ما، فسيتهمك بالتعالي لأنك لا تحترمه أبداً.
تخيلت «توليك» وهو صغير، وكيف كان والده يعبّ الفودكا كشربه الماءَ، ويضربه لأقل هفوة؛ ما يضطر إلى ترك البيت والغياب عن المدرسة وتفضيله قضاء أوقاته مع أصدقاء السوء. وحين أخبرت حكمت بتصوراتي، قال لي: مستحيل، فهو مثقف ويقرأ كثيراً، وأعتقد بأنه لولا ذكاؤه ومعاناته لما وصل الحال به إلى ما هو عليه اليوم !! فأجبته بأن ما قلته مجرد نتاج مخيلتي لا أكثر!! لكن حين تحدثت إلى «توليك» المشرد، وجدته مثقفاً فعلاً، حدثني في الفلسفة اليونانية القديمة وفلاسفة القرن العشرين والفلسفة الماركسية، التي كان ينتقدها مراراً خلال حديثه. وكرر لي مقولة أرسطو: «من صح فكره، أتاه الإلهام»، ليثبت بأن الكأس أفضل وسيلة لتصحيح الفكر!
سألته مرة: أين كنت تعمل؟
فأجاب: كنت أعمل مدرساً للفلسفة في إحدى جامعات موسكو. وأضاف بعد تنهيدة طويلة: وطردت منها لأسباب مسلكية كما جاء في قرار الفصل، ولكن، أقسم لك بأن السبب سياسي بحت.
- ولكن ما الذي بّدل من أحوالك؟
- فقدت شقتي بسبب هذا! ورفع كأسه المملوءة بالفودكا.
عهدت اللقاء بـ «توليك» عند صديقي بين حين وآخر، أسأله عن صحته، التي لم يكن يعيرها أي انتباه، وعن آخر كتاب قرأه، إلى أن اختفى ذات يوم وأخبرنا أصدقاءه في الشرب بأن قلبه توقف بعد شربه فودكا مغشوشة وتسممه بها.
بعد سنين طويلة من وفاة «توليك»، دعتني إحدى الزميلات، للذهاب إلى المقبرة، حيث دُفنت والدتها، وما أن وصلنا، حتى بدأت أتفقد المكان، ولأنني أزور مقابر الروس لأول مرة، بدأت أسألها عن هذا القبر وذاك، إذ إن بعض القبور اعتني بها بشكل جيد، ولها شواهد تدلّ على غنى أصحابها، وأخرى تركت من دون عناية، كما أن بعضها دون صليب أرثوذكسي، صليب الديانة الروسية. وبينما هي تشرح لي، لاحظت بالقرب من قبر والدتها قبوراً أخرى مرقمة، لم تكتب عليها أسماء المتوفين، وتُركت دون عناية، لا تُميزها عن الأرض المسطحة إلا بوجود صليب قديم يغطيه الصدأ، وتمركزها في صف واحد طويل مفصول عن القبور الأخرى.
سألتها: لمن هذه القبور؟
قالت: إنها لمن لا أقارب لهم، ومن لم يتم التعرف على هويتهم بعد وفاتهم.
بينما كنت أقف بجانب الرقم 28، تذكرت «توليك» المشرد وقلت في نفسي، ربما يرقد هنا «توليك»، مدرس الفلسفة ذاك أو أحد رفاقه ممن كانوا يرتادون كشك صديقي حكمت من أجل قليل من الفودكا أو مازة ما يسدون به رمقهم وهم يشربون.
أفصحت لصديقتي عمّا يجول في خاطري، فقالت: لا أدري ولكن ربما! ربما يكون هذا القبر هو قبر صديقك «توليك»!