يمكننا أن نقف في المجموعة القصصية الأولى للكاتبة البحرينية أمل عبدالوهاب «وقت ليس لي»، الصادرة عن «دار مسعى للنشر والتوزيع»، و «العنوان للنشر والتوزيع»، في طبعتها الأولى للعام الجاري (2017)، على ما يثير الإعجاب، وتقدير ذلك التأني في نشر التجربة التي بدأت ملامحها تتجسد في العام 1983، من حيث تحديد اقترابها من «النضج»، وحتى اليوم، بينما النصوص التي تحويها المجموعة التي بين أيدينا تغطي فترة التجربة ما بين العام 1983 والعام 1991؛ أي ثماني سنوات، في الوقت الذي تفصلنا 25 سنة عن انتخاب نصوص من العام 1991م، علّها تكون أكثر نضجاً، ربما لم تجد «أمل» بُدَّاً من أن تخضع لمسار التأنِّي ومراحله؛ علاوة على أن اختيار نصوص المجموعة لم يأتِ - كما يبدو - فردياً، بل وقف عليه مجموعة من الأصدقاء والصديقات.
الكاتب والباحث فهد حسين قدَّم للمجموعة، حيث تناول ظاهرة نأي عدد من الكتَّاب عن نشر نتاجاتهم، في حال من المراجعة المسئولة التي تجعلهم يمارسون نوعاً من الحالة النقدية غير المألوفة؛ وليس بالضرورة أن تكون منهجية في تقرير صلاحية أن ترى أعمالهم النور أو التأني في دفعها إلى المطابع والقرّاء.
بشأن المجموعة، نحن إزاء تجربة تلتقط نماذج النوازع التي تنتاب الجنس البشري... ربما نوازعنا، قبل أن تقدم النماذج البشرية في هيئتها البرَّانية... تلك التي تعيش سطحية الحياة، وبالتالي لا يستطيع أي فن أن يمررها لنا في الصورة المقابلة، لأنها كتبتْ انطفاءها وتلاشيها في الأمكنة التي تتواجد فيها. تقدمها لنا أمل عبدالوهاب بلغة مصقولة بالعذاب حيناً، والرفاهية التي سرعان ما تذوي حيناً آخر. نماذج ليست خرافية أو يتم اختراعها كي تكون بيننا. هي بيننا بطبيعتها البسيطة... بنوازعها... بكوابيسها وأحلامها، بأملها، وحتى ما يبدو أنه يأس، لكننا بشفافية الرؤية، وعذوبة اللغة نكاد نكون متوحِّدين حتى مع الكوابيس في النماذج التي تقدِّمها أو تقترحها لنا الكاتبة. حضور الحوار المكثف في لغته، والخاطف أحياناً هو ما يلفت في كثير من النصوص.
المعالجة... التشخيص
بشأن تجربة أمل عبدالوهاب يكتب فهد حسين «إن تجربة أمل عبدالوهاب القصصية تجربة تميزت بقدرة على طرح رؤيتها تجاه المجتمع والمرأة والعلاقات الإنسانية والعاطفية، وإذا كان لدينا الكثير من النصوص السردية تعالج المشكلات الاجتماعية والحياة اليومية في شكلها المجتمعي من دون الغوص في عمق هذه الحالة أو تلك، فإن نصوص القاصة تتجه نحو معالجة الذات وقيمتها في الحياة وعلاقاتها مع الكائن البشري الآخر، والكائنات الأخرى (...)».
هل اتجهت القاصة فعلاً إلى معالجة الذات؟ لا شيء يوحي بذلك، ولا تريد لنا القاصة أساساً أن نكون مشغولين بالوظيفية التي يمكن للسرد أن يقوم بها. هل لابد له أن يتصدَّى لذلك الدور: المعالجة؟ التشخيص ربما، وذلك ما لا يختلف حوله كثيرون.
في نص «شراع» نقرأ: «كل الزوايا كانت تنتظره، إنه هو صديق القبر المتوحِّد داخله كالمرض الخبيث». ما يبدو عبوراً. ما يبدو ملامسة للظاهر من النماذج تلك، تستوفي عمقه وتفاصيله اللغة بكل الحمولات. بالشفَّاف والحاد منها في الوقت نفسه. كأنها وهي بكلِّيتها توجُّهاً نحو القصة لم تكن على مبعدة من جنس أدبي هو في الصدارة من «النُّبْل» إذا صح التعبير: الشعر. لن يخفى على ذائقة. لن يخفى على الباحثين عن الحدود المُسنَّنة التي تأخذنا إليها أمل عبر نماذجها البشرية. نماذجها المأزومة وتلك التي تدلع لسانها سخرية من الحياة وشرطها اللعين. مع ملاحظة أن اللغة هنا لا تخضع لمنطقية السرد. المنطقية ضمن الشرط الجاهز في بنية القصة التي يُراد لها أن تكون ضالعة في نمطيتها والقوالب كما نتوقعها؛ أو كما يتوقعها القارئ الكسول، أو الذي يُراد له أن يكون بليداً بفعل نصوص تمتهن ذلك الدور.
حضور الشعر... كثافته
في القصة نفسها تضعنا أمل أمام «جوشن»؛ حيث نقرأ: «كنت صغيرة عندما زوَّجني أبي لصاحبه، لم أكن أعرف شيئاً عن الحياة، شربت من الجوع والعذاب ما يكفيني لآخر عمري وعمر كل الفقراء، وبعد أن مات الحوت الذي ظل ينهش مني خمسة عشر عاماً رأيت، آه رأيت نفسي أكبر! أنضج وجسدي أجمل ما يكون فعرفت». وعودة إلى ما تمت الإشارة إليه في بداية هذه الكتابة، وما تم اقتباسه من تقديم الكاتب والباحث فهد حسين، لا تضعنا الكاتبة هنا أمام نماذج خارج قدرتنا على تصورها. نماذج تهبط علينا من النص فلا نشعر بالألفة معها، لأنها ليست من طبيعتنا. هي نماذج منا. هي نحن، وهم، وأنتم، وهي، وهو، وهن. نماذج من النسغ نفسه. من تراتبية الحياة وتفاهتها. من قدرة الموت على التسلل والمفاجأة والغيلة. 15 قمراً في هيئة فتاة غضَّة تُرمى لقمة سائغة إلى الحوت. الحوت الذي ظل ينهش نضارتها. الجسد الذي تم اكتشافه بعد موت الحوت. ثمة من النموذج ذاك ما يكاد يسد عين الشمس، في بلدان مازالت تئد البنت في صور شتى. ربما وأد يتجاوز بمراحل ذلك الذي مازال عالقاً في ذاكرتنا ووعينا، باعتباره أشرس وأحطّ أنواع الوأد الذي يبدأ باسوداد الوجه وينتهي بمواراتها التراب وهي في الرطب من أنفاسها وروحها.
في «جوشن» نفسه، يحضر الشعر في كثافته، تختزل لنا أمل عبدالوهاب أوقاتاً بخلاف نظرنا إليها. بخلاف واقعها. ثمة توغل في الشعر هنا من دون أدنى شك: «في الظلام تكبر الأشياء وتتضح».
في ثنايا كل نص، ثمة شاعرة تختبئ هناك. ما نعرفه أن الشعر لا يمكنه أن يختبئ. وظيفته أن يظل شاهراً معانيه، وانفتاحه على التأويل. ذهاباً على الماء والنار في الوقت نفسه. ثمة شاعرة قادرة على أن تبهرنا - ربما - مستقبلاً بنصوص ستكون عصيَّة على النسيان. في اللب من الحضور والذاكرة ستكون.
الخروج على النمطية
التقاط كثير من النماذج/ الشواهد في النصوص التي شكَّلت المجموعة، يحيلنا إلى الجميل والمدهش من ذلك الشعر، ونحن إزاء عمل من المفترض به أن يكون قصصياً خالصاً، كما يريد له بعض النمطيين في تعاطيهم مع الأجناس الأدبية. لكن أمل عبدالوهاب في كسرها لتلك النمطية تأخذ بيدنا إلى أكثر من جنس أدبي، وإن بدا السرد غالباً بالضرورة.
في «أسوار» نقرأ:
- أنت أكذوبة كبيرة.
- وأنتِ امرأة قد تخيطين للحلم وجوهاً أخرى، لكنك تبقين امرأة.
أقف بعريي أمام المرآة، أحدِّق في الانفجار الذي يصهل ما بين جسدي وجسد المرآة.
وفي «أنا أموت وحيداً»، نقرأ: «قرب الطين والحجارة، كان يبحث عن شيء ما. يحاوره الطِّين والحجارة:
- ماذا تفعل في هذه الرقعة يا فاضل؟
- أبحث عن شكلي.
- وشكلك؟
- إنه قناع الدور الذي انتهى».
وفي «مرفأ أخير» نقرأ: «أمي، لقد اسودَّت المرايا. ففي قلب هذا الزمن المخمور، قد لا تعرفين شكل جسدي، فهل تسألين لي عن ليل أليف، ليل فقط»؟
أمل عبدالوهاب: صوت ربما تأخَّر في حضوره، لكنه جاء متقدِّماً بالأدوات التي يملكها، وأكثرها جلاء، اللغة التي هي في معنى من معانيها: الدِّقة. صوت يمكن له أن يكون رقماً صعباً وحاضراً بقوة في المشهد الإبداعي، والقصصي خصوصاً، والذي يشهد قفزة ملفتة ونوعية، يمكن القول إنه تجاوز الشعر الذي ظل شاخصاً في المشهد لسنوات.
الكتاب ضمَّ النصوص الآتية بحسب ترتيبها: الجمرة، شراع، أسوار، شهادة الوقت، أنا أموت وحيداً، اغتيال مزدوج، أوهام، لوحة شبه مكتملة (تجدونها منشورة في الصفحة نفسها)، مرفأ أخير، أسرار، انتظار، ووقت ليس لي، والذي حمل عنوان المجموعة.