في ساحة الحرم الجامعي المحاطة بمبانٍ حديثة التصميم غاية في الدقة والروعة الهندسية، تنفتح نوافذها العملاقة على مساحات جذابة من الخلاء والطبيعة البرية في الصخير، ارتفعت حوالي الساعة الثانية عشرة ظهرا موجات متدفقة من الأنغام الموسيقية الصاخبة والكلمات الوطنية لتُعلن بدء حفلة غنائية في جامعة البحرين بمناسبة الانتخابات النيابية يوم الخميس 24 أكتوبر/تشرين الأول. ومع ارتفاع رذاذ هذه الموجة الغنائية العالية إلى وقت المساء وانصراف الطلبة والحضور بعد انتهاء الحفلة، كانت المؤشرات تشير إلى نجاحها وتميزها باستضافة ألمع نجوم الطرب الخليجيين والعرب، وأن رجال أمن الجامعة نجحوا في أداء واجبهم الوطني/الأكاديمي بزيادة حصة التفتيش المعتادة، لكن يبدو أن الرياح تأتي بما تشتهي سفن منظمي الحفلة بقدوم صباح يوم السبت الذي فجَّر عاصفة من الاحتجاج والغضب الطلابي، حين انتشرت معلومة - هي مثار جدل حتى هذه اللحظة- عن وجود قناني خمر عثر عليها من (بقايا يوم الخميس) خلف مباني المكتبة، وادعاء وقوع تجاوزات أخلاقية جنسية وغير جنسية خلف كواليس الحفلة، ما جعل عددا كبيرا من الطلبة يحشدون أنفسهم وينظمون يوم الثلثاء من الأسبوع الماضي مسيرة طلابية سلمية تعارض اقامة مثل هذه الأنشطة وتطالب بوضع ضوابط أخلاقية أكثر حزما.
ولم يتوقع «...» وهو موظف أمن في جامعة البحرين أن عمله الأمني المكثف طيلة الأيام العادية سيزداد عبئا بعد يوم الحفلة إذ (راحت السكرة وجت الفكرة)، وهناك يُسمع صراخ وتأنيب من غرفة رجال الأمن لا يُعرف سببهما، سيجعلان من ... يقظا أكثر في الحفلات القادمة.
وكانت الجامعة في اليوم نفسه قد أقامت احتفالات وأنشطة متنوعة تبرز ابداعات الطلبة إذ خصصت مساحات لعروض مشروعات الجمعيات والأندية الطلابية قدمت خلالها عدة أعمال مثل البيت التراثي الذي يعرض خصائص البيت البحريني القديم، ومجسم سفينة غوص (بوم) من عمل جمعية الهندسة، ومحكمة شيدتها جمعية الحقوق لم تستطع أن تحسم الجدل الدائر في الوسط الجامعي الذي منبعه اقامة هذه الحفلة وتبعاتها وجدواها ومصاريفها، بل استطاعت أن تقدم اسكتشا مسرحيا قصيرا فصل في خلاف وقع بين رجلين يدعيان ملكية ديك... وبعد انتهاء الحفلة «طارت الديوك بأرزاقها»...!
أقيمت الحفلة بعد لقاء شعري غرق في حب الوطن وعودة الحياة النيابية قيلت فيه أجمل الأبيات بمشاركة مجموعة من الشعراء المعروفين مثل علي عبدالله خليفة وعبدالرحمن رفيع ومحمد هادي الحلواجي الذين لم يعلموا أن المسرح الذي سيحتضنهم والمنصة التي سيعتلونها، ستكون بعد دقائق هي منصة المغني ومسرح (الطرب والفرح). لقد اختلطت الأجواء بعد قليل بموجة من أغاني العشق والحب والهيام وأجساد تتمايل وتترنح يمينا وشمالا، وبدأ نجوم الحفلة يُسمعون الطلبة مقطوعات غنائية مجانية. هناك اجتمع حشد غفير من الطلبة والشباب والأكاديميين وضيوف من خارج الجامعة بعضهم قدم بدوافع وطنية للاحتفال بيوم الانتخابات واعلاء شأن الوطن ودعم المشروع الاصلاحي الذي يقوده عظمة الملك... والآخر جاء ليعيش متعة ونشوة لم تتوافر له خارج الجامعة. وكان بعض الطلبة يتهامسون فيما بينهم... اذا لم تشاهد المطرب المشهور (...) على الطبيعة فهذا هو اليوم الموعود!
والحرم الجامعي الذي عرف بالوقار والسكينة تحول إلى ما يشبه فندقا من «الدرجة الرابعة» - بحسب توصيف بعض الطلبة في ذلك اليوم - صالته وضعت في الهواء الطلق، وحول المسرح التفت الكراسي في حلقات دائرية ولم يستطع الجالسون أن يبقوا في مقاعدهم من شدة وقوة اللحن والموسيقى، وظهر بينهم الطلبة والطالبات الملثمون الذين يجيدون الرقص واخفاء معالم الوجه. لم تقف الحكاية عند هذه النقطة... فالطلبة الذين حضروا الحفلة تفرقوا... وكانت تجوب أروقة الجامعة الواسعة دوريات المراقبة الاجتماعية ممثلة في مرشدات التوجيه الاجتماعي التي كُثف عددهن بالمئات... ولكن يبدو أن عددهن تضاءل أمام حشود آلاف الطلبة... وكان بمثابة اليوم الموعود!
ربما هو ما حدث فعلا... وُعد الجميع بمفاجآت ساخنة! لقد فتح منذ حينها موضوع الأخلاقيات في الجامعة بشدة على مصراعيه - وهو موضوع نسبي - إلى جانب الثقافة الغنائية المطلوب الآن من الطلبة الجدد دراسة مبادئها ومعرفة المغنين والملحنين وآخر حركات الرقص بمباركة الجامعة. وليس الطلبة فقط المعنيين. هناك تلهف من قبل الأكاديميين للحاق بها، وتتجاذب الحديث مجموعة من الأساتذة عن أحد أسماء المغنين وأفضل أعماله الغنائية (فيديو كليب) ولا يترددون في سؤال طالب جهبذ.
الأصوات المعارضة من الطلبة باختلاف توجهاتها كانت تقف متعجبة من تحويل الحرم الجامعي إلى ساحة غناء وطرب و(وناسة) ويرون أن اقامة مثل هذا النوع من الأنشطة يعد انتهاكا لقداسة الحرم الجامعي، وما يصرف من أموال طائلة هو بذخ وفي الاتجاه الذي لا يخدم احتياجات ومصالح الطلبة. وهؤلاء الطلبة المعارضون تضمهم شرائح مختلفة، فبعضهم مجموعة من أعضاء مجلس الطلبة الذين كانوا مترددين في اعلان موقفهم ويُحضِّرون لكتابة بيان معارض، ومجموعة من رؤساء وأعضاء الجمعيات والأندية الطلابية الذين لا يظهرون عدم رضاهم لارتباط مصالحهم بعمادة شئون الطلبة، والغالبية الساحقة المستاءة هي من الطلبة الشيعة ومجموعة من الطلبة السنة أعلنت استنكارها في مسيرة يوم الثلثاء.
ويتمسك الطلبة المتظاهرون بما يعتبرونة شواهد دامغة ومثبتة - بحسب ادعائهم - بالصور وأنه حدثت تجاوزات أخلاقية (خمس حالات) سببها الجو العام الذي وفرته الحفلة وأنهم مستعدون لتقديم افادات الطلبة الشهود في ذلك، بينما ترى الجامعة أن في الأمر تهويلا، وهذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة ومن الصعب اثباتها، وقد أبدت الجامعة تفهما لاحتجاجات الطلبة.
وحتى في الشارع الطلابي يوجد انقسام حول ادعاء ما حدث من تجاوزات فالبعض يطالب بالاثباتات وعدم تهويل الأمر، والآخر يرى أن ما حدث له امتداد لموضوع الأخلاقيات في الجامعة.
هذا الموضوع وجد له صدى في مواقع ومنتديات الانترنت المغلقة التي تجد مساحة واسعة من التعبير من دون تضييق. كتب أحدهم: «لست مستغربا أن تحدث خمس حالات في ذلك اليوم بسبب تهيؤ الأجواء لحدوث مثل هذه الممارسات، لقد كنا طلابا في تلك الجامعة (ما قبل الاختراق الأمني) ومرت علينا الكثير من القضايا المماثلة وكما يقول ياسر العظمة في مسلسله مرايا (مما رأى وقرأ وسمع)».
وكتب أحدهم عن حضور الطالبات الحفلة ومراقبة أولياء أمورهن: «الفتيات خرجن من بيوتهن بعلم أهاليهن وبرضاهم فلماذا تعينون انفسكم أوصياء عليهن؟؟ بل وتتظاهرون لاجبارهن على ذلك... وكذلك تتظاهرون لمنع الحفلات... وانا نفسي حضرت الحفلة وكانت حفلة هادئة معبرة ولم أر أي منظر مخل بالآداب ولا خمور ولا غيرها... بل ان من اطلق هذه الشائعات هم اناس لم يحضروا اساسا لأنهم معترضون على الحفلة...»
الحفلة التي أقامتها الجامعة ليست بالأمر الجديد. فهي أقامت أوبريتا غنائيا - أخف وطأة - بمناسبة مرور سنة على الميثاق في فبراير/شباط الماضي صرف عليه ما يتجاوز العشرين ألف دينار، إلى جانب الكرنفال السنوي المعتاد في العيد الوطني الذي تغرق فيه عمادة شئون الطلبة جمعياتها وأنديتها الطلابية بوابل من الكرم والسخاء المادي.
آلاف الدنانير الحمراء كانت تتطاير وتتعالى في فضاء ساحة الحرم الجامعي تتسابق وتصعد إلى السماء مثل قنابل الألعاب النارية لتموت وتنتهي بعد أن تضيء لحظات معدودة ترسم الفرحة والبهجة على الوجوه المتابعة لها. هذه الدنانير التي قررت المغادرة والأفول لم تشاهدها عين ساحر أو دجال أو متخيل... إنما عين طالب جامعي عضو في جمعية طلابية حلم ولايزال بالحصول على جهاز كمبيوتر محمول (لاب توب) قيمته حوالي 700 دينار للاستفادة من مصادر المعلومات الرقمية وتحسين العروض العلمية للجمعية، أو على الأقل عدم تعثر طلبات الجمعية التي تقدر بالدنانير البسيطة في الأيام العادية. هذا الطالب حضر للاستمتاع بالحفلة وكان يعلم أن انذارا خفيا يحذره من أن تحقيق ما يصبو إليه صار صعبا ومتعذرا.
الأجواء خارج الجامعة مشحونة قبل وبعد الحفلة، ولايزال ... (موظف الأمن في الجامعة) يحمل همّا كبيرا... وهو المراقبة على طريقة الأفلام الأميركية والـ (اف بي آي)
العدد 59 - الأحد 03 نوفمبر 2002م الموافق 27 شعبان 1423هـ