إذا صادف وكنت من الرؤساء المحظوظين، وسُمح لك بزيارة البيت الأبيض، فلنتخيل سيناريو الحوار مع الرئيس الأميركي سيكون على الشكل الآتي:
بوش: أهلا وسهلا.
الرئيس الزائر: شكرا حضرة الرئيس على هذا اللقاء الفريد من نوعه. وأنا محظوظ جدا لأنني كنت على جدول مواعيدك. وفي المناسبة، كيف ترى الحل لمشكلات العالم، ماذا عن الفقر، ماذا عن الأمراض، ماذا عن التلوث؟ ماذا عن ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية، ماذا عن التحول من النظام العالمي القديم، إلى نظام جديد بقيادة أميركا؟ وكيف سيكون التحول؟ هل هو سلمي (عقلاني) متعدد وبمشاركة كل الأقطاب، أم هو عُنفي، قسري؟
بوش: هل تعرف حضرة الرئيس، أنا بدوري أريد ان أسألك. ماذا عن الارهاب؟ ماذا عن أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، ماذا عن الملا عمر، ماذا عن تمويل القاعدة، ماذا عن دول محور الشر، ماذا عن حماس وحزب الله، ماذا عن حيازة المجموعات الارهابية أسلحة الدمار الشامل؟
يخرج الرئيس المفترض من اللقاء مع الرئيس بوش والدهشة على محياه. ويقول في نفسه: فعلا تغيّر العالم بعد 11 سبتمبر/ أيلول، على الأقل في الوعي الأميركي.
ما العبرة من الحديث أعلاه؟
تكمن في ان الرئيس الضيف ينظر إلى مشكلات العالم نظرة استراتيجية، محاولا حثّ الرجل الأقوى في العالم على إيجاد الحلول الناجعة. في المقابل، تبدو نظرة الرئيس بوش نظرة تكتيكية، ضيقة تركّز على الشق الأمني الأميركي من دون سواه من الأمور المهمة.
كيف تم التحوّل من الاستراتيجي إلى التكتيكي؟
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، توزع العالم تحت مظلة «الحرب الباردة». في هذه الحرب كان الرادع الأساسي للقوى العظمى يكمن في الشق النووي. خلال الحرب الباردة، غابت الحروب الكبرى، وحلّت مكانها الحروب المحدودة والأزمات. فكانت كوريا، فيتنام، الحروب العربية الإسرائيلية والأزمة الكوبية. لذلك يمكننا القول ان الاستراتيجي خلال الحرب الباردة، كان يحدد التكتيكي. أي ان الخوف من فناء العالم، كان يحتّم على الجبارين ان يكونا عقلانيين إلى أقصى درجات العقلانية. فكانا يتحكمان في المستوى التكتيكي خوفا من الوصول إلى الممنوع والمواجهة المباشرة. سقط الدب الروسي في بدايات التسعينات، وتفرّدت أميركا بمصير العالم. وتحوّل العالم إلى قطب واحد، واستراتيجية واحدة، هي استراتيجية «العم سام». في هذه المرحلة، لم يكن الفارق بين المستوى الاستراتيجي والمستوى التكتيكي ظاهرا. فالخطوط بين الاثنين كانت رمادية، غير مرئية، ولم تشعر أميركا انها مهددة، وتقدم الاقتصاد على الأمن مع الرئيس بيل كلينتون.
بعد 11 سبتمبر، تبدل الأمر كليا، وتقدم التكتيكي على الاستراتيجي. وراح التكتيكي، يحدد بطريقة غير مباشرة المستوى الاستراتيجي، ما المقصود بذلك؟
أدى 11 سبتمبر إلى تبدل جذري في المفاهيم الأمنية، وفي نوعية المخاطر، كذلك الأمر في نوعية العدو. فالعدو الحالي هو على شاكلة الشركات العابرة للقارات. وهو موزع على أكثر من 60 دولة. أهدافه كبيرة جدا حتى لو كانت امكاناته محدودة مقارنة مع أميركا. بعد 11 سبتمبر وجدت أميركا نفسها ملزمة بإعلان استراتيجية كبرى لمحاربة الارهاب، وذلك انطلاقا من المستوى التكتيكي. فهي خاضت الحرب في أفغانستان تكتيكيا، أي انه كان لزاما عليها ان تنتصر في هذا المستوى كي تظهر الصورة الكبرى لاستراتيجيتها. والفشل مثلا في أي اشتباك مع عناصر القاعدة، حتى ولو كان بسيطا، قد يؤدي إلى تصدع الهالة الاستراتيجية الأميركية الكبرى. من هنا تأتي أهمية المستوى التكتيكي. بعد 11 سبتمبر (وهو تكتيكي في المطلق حتى لو كانت مفاعيله استراتيجية)، أطلقت أميركا شعارات سياسية استراتيجية كبرى، منها: من ليس معنا، فهو ضدنا. سنضرب من يؤوي، يموّل ويساعد الارهاب. دول محور الشر. وأخيرا وليس آخرا، العقيدة المتمثلة في الضربة الاستباقية.
بعد النصر الأميركي في أفغانستان، راحت الولايات المتحدة تحضر العدة للحرب على العراق. في ظل هذا الوضع، وقع الكثير من العمليات الارهابية التي تستهدف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مصالح العم سام. فمن تفجير ناقلة النفط الفرنسية في اليمن، إلى إطلاق النار على الجنود الأميركيين في الكويت، إلى التفجير الكبير في جزيرة بالي (اندونيسيا) الذي ذهب ضحيته أكثر من 190 قتيلا، يبدو ان «القاعدة» بدأت تكتيكا جديدا يتناول أهدافا غربية سهلة المنال وغير محمية. ويبدو أيضا ان مساحة المواجهة بين أميركا والارهاب قد اتسعت لتشمل مسارح جديدة تعتبر حيوية لأميركا ولكل العالم الصناعي المتقدم. وقد يتساءل المرء هل ان كل هذه الحوادث هي من تخطيط وتنفيذ القاعدة، وهي التي مُنيت بهزيمة نكراء في أفغانستان؟ من الصعب الجواب على هذا السؤال، لكننا يجب ألا نستبعد منظمات أخرى تريد ان تصفّي حساباتها مع أميركا، قد تكون دخلت على خط المواجهة. وقد يقول بعض من يؤمن بنظريات المؤامرة، ان هذه الأعمال هي من تخطيط غربي وبالتحديد أميركي، يهدف إلى تسريع الحرب على العراق، وإلى إلزام الدول الغربية بالدخول مع أميركا في الحلف ضد الارهاب.
في حال كانت هذه الهجومات من تنفيذ وتخطيط القاعدة، فإلى ماذا تهدف «القاعدة»؟ تُصنف هذه الأعمال في الخانة التكتيكية، لكنها ذات مفاعيل استراتيجية. تريد القاعدة ان تنهك أميركا عبر تشتيت قواها على أكبر مسرح ممكن. فمن نيويورك، إلى أفغانستان، إلى الدول العربية وخصوصا العراق، إلى أوروبا وحتى إلى جنوب غربي آسيا، تبدو القاعدة (أو غيرها) في مواجهة مباشرة مع أميركا. لكن الفريد في الأمر، هو ان أي نجاح للقاعدة في ضرب أي هدف غربي (مستوى تكتيكي)، أو إسلامي متعاون مع الغرب، يعتبر نصرا للقاعدة وهزيمة لأميركا (مستوى استراتيجي).
فالقاعدة تأخذ من رصيد الولايات المتحدة في أية مواجهة حتى ولو كانت الخسائر الأميركية زهيدة. وقد تشكل هذه الحوادث المتفرقة، زخما للقاعدة في العمليات المستقبلية. وقد تثبت أيضا ، صحة ما دعا إليه بن لادن. وقد تبدو دعواته ودعوات مساعده أيمن الظواهري، وكأنها قد لقيت آذانا صاغية، لتتحول الحرب، من حرب على الارهاب، إلى حرب على المسلمين. لكن الجدير ذكره في هذا الوضع هو، ان أميركا مقيدة والقاعدة تملك حرية الاختيار في توقيت زمان ومكان الحدث الزمني. فالقاعدة تملك زمام المبادرة، فهي تضرب بحرية تكتيكية من دون حدود. وإذا ما أرادت أميركا ان ترد الضربة، فهي قد تجد نفسها ضمن تقييدات عسكرية استراتيجية، وتقييدات سياسية دولية. فهي لا تملك حرية انتهاك سيادة الدول، كل الدول. وإذا سُمح لها ذلك، فهي تجد نفسها مقيدة على صعيد الشق التنفيذي وكل ما يتعلق بالوسائل اللازمة واللوجستية الضرورية.
كيف يؤثر سلبا النجاح التكتيكي للقاعدة على مصالح الولايات المتحدة؟
يكفي لنا في هذا الإطار ان نتناول حادثة بالي في اندونيسيا في تأثيراتها الاستراتيجية على مصالح العالم المتقدم وخصوصا على أميركا، فماذا عنها؟
إن دراسة معمقة لتأثيرات حادثة بالي، تظهر لنا دهاء المخطط للعملية. وتظهر لنا ان عملية انتقاء الهدف كانت مُحترفة إلى اقصى درجات الاحتراف. ويعود هذا الأمر ليس إلى عدد الضحايا الذين وقعوا، بل إلى التأثيرات المستقبلية على المنطقة، وعلى الوضع الجيو - استراتيجي الذي يحيط بجزيرة بالي. فماذا عنه؟
تقع جزيرة بالي في وسط بحر من الجزر والممرات البحرية، والتي تسيطر على خطوط التجارة في جنوب شرقي آسيا. هناك أربعة ممرات بحرية حيوية في المنطقة هي: مالاكا، سوندا، لومبوك، ماكاسر وتوريس. في العام 1993، أكثر من نصف عدد الأسطول التجاري البحري العالمي مر في هذه الممرات. حوالي 15 في المئة من حجم التبادل التجاري العالمي عبر الحدود، مر في هذه الممرات البحرية، ما يوازي قيمة 600 مليار د. أ. تعتمد استراليا بشكل حيوي في تجارتها مع آسيا على ممر لومبوك المجاور لجزيرة بالي. في العام 93، عبرت أكثر من 114 سفينة مضيق مالاكا يوميا، بالإضافة إلى حاملات النفط التي يتجاوز عددها الـ 1100 سنويا. 30 في المئة من التجارة اليابانية تعبر هذه الممرات، كما يمر حوالي 80 في المئة من النفط المستورد لليابان عبر مضيق مالاكا. تستورد أيضا اليابان الفحم الحجري من استراليا الذي بدوره يمر عبر هذه المضائق.
27 في المئة من التجارة الصينية تمر عبر هذه المضائق، كما تستورد الصين ثلث نفطها من الشرق الأوسط الذي بدوره يمر في المضائق المذكورة.
إذا النجاح التكتيكي للقاعدة في بالي قد ينعكس سلبا على المصالح الحيوية لأميركا ولكل الدول الموجودة في جنوبي شرقي آسيا، ولدول الشرق الأقصى على حد سواء.
وسيؤثر حتما على المستوى الاستراتيجي لحرب أميركا على الارهاب. فإذا ما أرادت أميركا إبقاء الخطوط البحرية مفتوحة للتجارة العالمية، فما عليها إلا ان تحقق نصرا تكتيكيا على أرض الواقع في هذه المضائق. وهذ ايستلزم وقتا وجهودا طويلة الأمد. لكن الجانب الآخر والسلبي من نجاح القاعدة (أو غيرها) في بالي، هو امكان تحالف الدول المتضررة من إغلاق المضائق لإنتاج نظام أمني خاص بالممرات البحرية المعنية. وقد تقرّب حادثة بالي الصين أكثر فأكثر من أميركا، لان مصالحها أصبحت على المحك. وهذا كله ليس من مصلحة القاعدة.
في الختام، لابد لنا من القول ان التكتيكي والاستراتيجي يكملان بعضهما بعضا. والقائد عادة هو الذي يعي الاستراتيجي، وينخرط عموديا في التكتيكي لفهم أرض الواقع. لكن نجاح هذ القائد يحتم عليه دائما التركيز على الصورة الكبرى، أي الاستراتيجي وعدم الغرق في المستوى التكتيكي. فهل بوش قادر على ذلك؟ حتى الآن وبحسب ما يظهر لنا يبدو الجواب بالنفي. فهل سينعكس ذلك سلبا على إنتاجيته بوصفه رئيسا لأميركا؟ لا أعتقد، لأن الحلول والخيارات المتوافرة له كثيرة، والوسائل الضخمة التي بحوزته لا مثيل لها. إذا يحق له ارتكاب الأخطاء، لأن امكان معاودة الكرّة والمحاولة مجددا هي ممكنة بالنسبة إليه. لكن التاريخ علمنا ان لكل شيء في الحياة نقطة ذروة، يجب عدم تجاوزها. تكمن مأساة العالم في ان للرئيس بوش هامشا كبيرا من الأمان قبل الوصول إلى نقطة الذروة، فما علينا إلا الانتظار ومحاولة تقليل الخسائر
العدد 58 - السبت 02 نوفمبر 2002م الموافق 26 شعبان 1423هـ