يحتاج المراقب لمعرفة منبع التكفير الإرهابي، الوقوف عند بعض منطلقاته النظرية، ليستطيع فهم تطوّره، ولاسيّما بربط حلقاته التاريخية، إضافة إلى متابعة بعض شخصياته مثل أسامة بن لادن الذي تأثّر بمؤسس تنظيم «القاعدة» عبدالله عزام والذي كان معلّمه الأول في أفغانستان، حيث التقيا في قاعدة بيشاور التي انطلقت منها تنظيمات «القاعدة»، والتي كان فيها أكبر معسكرات التدريب أيام الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، وكانت قد حظيت بدعم أميركي.
فما إن تأسّس تنظيم «القاعدة» حتى أخذ يتربّع على عرش التنظيمات الإرهابية، ولاسيّما بعد أن لمع اسم أسامة بن لادن، حيث عمل الأخير جاهداً لإيصال المساعدات إلى «المجاهدين» في أفغانستان، وحسبما يقول أيمن الظواهري في أحد تسجيلاته الصوتية، إنه كان على صلة بجماعة «الإخوان المسلمين» في جزيرة العرب، كما يسمّونها، وكانت التوجيهات التي صدرت له هي الاتصال بالجماعة الإسلامية في لاهور، لكن ابن لادن تجاوز ذلك ووجد الطريق إلى «المجاهدين» في أفغانستان، الأمر الذي أدّى إلى فصله، وهو ما يذكره الظواهري.
يذكر أن المرجعية الفكرية الأولى لأسامة بن لادن كان أبوعلي المودودي وسيد قطب بالدرجة الأساس، وهو ما يتّضح من لغته، فقد كان يستخدم مصطلح «جاهلية المجتمع» و «ردّة المجتمع»، التي كثيراً ما تردّدت في كتاباتهما، وهو الأمر الذي أدّى به إلى استباحة دماء المسلمين، وتبرير قتلهم بزعم إقامته «المجتمع المسلم».
وإذا كان المودودي وسيد قطب مرجعين أساسيين لأسامة بن لادن، فإن هناك شخصية مثيرة للجدل، ساهمت في تأطير الجانب النظري للفكر التكفيري ونعني بها سيد إمام الشريف المعروف باسم الدكتور فضل أو الدكتور عبدالقادر عبدالعزيز، وقد وضع «الشريف» كتابين مرجعيين لتنظيم «القاعدة» ولأي تنظيم إسلاموي إرهابي، يمكن أن يستقي منهما أفكاره، وجلّ هذين الكتابين يقوم على تحديد أحكام الكفر من جهة، و«الجهاد» من جهة أخرى، ولعلّ اسمَي الكتابين يدلان عليهما، والمكتوب يُقرأ من عنوانه كما يُقال، فالكتاب الأول كان اسمه «الجامع في طلب العلم الشريف»، أما الكتاب الثاني فهو الموسوم «العمدة في إعداد العدّة».
في الكتابين تقع على أحكام مثيرة وخطرة في الآن، تمثّل اغتراب الجماعة الإرهابية عن الفكر السائد في مجتمعاتها، بل وعن مجتمعاتها، وخصوصاً عن التعامل الشعبي مع الإسلام من عموم المسلمين، وذلك بعيداً عن التأطير الأيديولوجي، حيث يحاول فيهما تأصيل التكفير، بجعل بلاد المسلمين «بلاد كفر» وجب الهجرة منها إلى حين يتم تطبيق «شرع الله»، ولعلّ ما قام به «داعش» من محاولة تأسيس «الدولة الإسلامية» بعد احتلال الموصل والتمدّد لنحو ثلث الأراضي العراقية، وخصوصاً بربط ذلك باحتلال الرقة السورية، هي تطبيق عملي لفكر الشريف التدميري الإلغائي.
ويعتبر سيد إمام الشريف أن جميع البلدان الإسلامية كافرة وخارجة عن الملّة، ولذلك وجب الخروج عليها، واستوجب الأمر الجهاد ضدها، وهذا «فرض عين وليس فرض كفاية» كما يُقال، وهو واجب على المسلمين، لأن الحكم بغير ما أنزل الله من قوانين هو كفر، والمقصود بذلك جميع القوانين الوضعية.
وبهذا المعنى يضع الشريف والفكر التكفيري الجميع في خانة الخروج عن شرع الله، طالما ارتضوا بوجود قوانين تحكمهم هي من صنع البشر، لأن ذلك سيكون خروجاً على الإسلام، الأمر الذي يقتضي مواجهته وتحريمه وإبطال ما يتّخذ بخصوصه من أحكام، وصولاً إلى خلع الحكام وإقامة حكم الإسلام.
ووفقاً لذلك يضع الشريف وتنظيم «القاعدة» وربيبه «داعش» في خانة الكفر: حكام البلاد الإسلامية وقضاتها «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» (المائدة: 44).
ويضع الفكر التكفيري أسبقية «الجهاد» على الاستحقاقات الأخرى، ويقدّم محاربة العدوّ القريب على العدوّ البعيد، أي يضع المسلمين قبل المسيحيين والنصارى واليهود وغيرهم، أي أن مثال المرتدين هو الذي يحظى بالأفضلية من الكفار والوثنيين وأتباع الديانات الأخرى. ويعتبر الفكر التكفيري أن مجتمعاتنا تسبح في «جاهلية مطبقة» و «كفر سافر»، الأمر الذي اقتضى تقويمهما بالسيف.
لقد سمّمت الأفكار التكفيرية عقول بعض الشباب، خصوصاً وقد أخضعوا في الكثير من الأحيان لعمليات غسل أدمغة، الأمر الذي قاد إلى تعكير حياة الكثير من البلدان والشعوب، وجعلت الواقع على ما فيه من تحديات وآلام ومصاعب، أشد قسوة وعسفاً، وذلك بإشاعة الرعب والهلع بين الناس، من خلال المفخخات والتفجيرات والأحزمة الناسفة والمقابر الجماعية، وأعمال الانتقام وإشاعة روح الكراهية، والغريب أن شعار «الله أكبر» ظلّ يتصدّر أطروحات الإرهابيين وأعمالهم وأعلامهم وشعاراتهم.
وإذا كانت «غزوة» 11 سبتمبر/ أيلول العام 2001 كما يسمونها وقبلها تفجيرات نيروبي ودار السلام وبالي وتفجيرات أوروبا، ولاسيّما أنفاق إسبانيا ولندن وعدد من تفجيرات باريس وفرنسا عموماً وتفجيرات ألمانيا وغيرها، هي ضرب تكتيكي في الأطراف، فإن استراتيجية التنظيم، على رغم استخدامها الإرهاب الخارجي، فإن مهماتها الأساسية ظلّت داخلية عربية وإسلامية بامتياز، أي تقديم مواجهة العدوّ القريب على العدوّ البعيد، مع الاستمرار في مشاغلة البعيد، لتنفيذ استراتيجية التصدي للقريب.
ولذلك لا يمكن النظر إلى قانون جاستا الصادر عن الكونغرس والذي أعطى الحق لعائلات ضحايا 11 سبتمبر/ أيلول من مساءلة البلدان التي ينتمي إليها الإرهابيون أو يحملون جنسيتها، والذين قاموا بتفجير برجَي التجارة العالمية في نيويورك، وهجمات واشنطن، إلاّ من زاوية التوظيف السياسي الذي يستهدف الابتزاز وإملاء الإرادة، بغض النظر عن السياسات ذات الطبيعة الازدواجية والانتقائية، ومثل هذا الأمر حاول الرئيس أوباما التنبيه لمخاطره على صعيد العلاقات الدولية، مشيراً إلى إمكانية ملاحقة دبلوماسيين عسكريين أميركان، لكن موجة العداء وقصر النظر هي التي تدفع إلى مثل هذه الإجراءات ذات الطبيعة العدائية.
ثمَّ من سيعوّض الضحايا الفلسطينيين الذين احتلّ وطنهم وهجّروا منه؟ ومن سيعوّض الأمة العربية، ومنها دول مثل مصر وسورية والأردن ولبنان والعراق، التي عانت من انتهاكات «إسرائيل» السافرة لحقوقها وارتكابات متواصلة، بل وعدوان مستمر عليها، ناهيك عن تعطّل التنمية وتبديد الأموال بسبب حروب «إسرائيل»، ومازال العراق وأفغانستان يعانيان من وطأة الاحتلال الأميركي لهما؟
لقد كان لأسامة بن لادن والظواهري وما بعدهما أبومصعب الزرقاوي وتنظيم الدولة الإسلامية للعراق والشام «داعش»، وخصوصاً أبوبكر البغدادي دور كبير في ضخّ الفكر التكفيري، ولاسيّما بالاستراتيجية العسكرية للسيطرة على مناطق شاسعة وإخضاعها لقوانينها، وهو ما جعلها تتمدّد لفتح جبهات قتالية من أفغانستان مروراً بالعراق، ووصولاً إلى سورية ولبنان واليمن وليبيا ومصر وتونس والمملكة العربية السعودية، وغيرها.
الإرهاب بالأصل أو بالفرع، واحد، ولا دين له ولا جنسية له ولا وطن ولا لغة ولا منطقة جغرافية، إنه فكر التعصّب والتطرّف والإلغاء.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"العدد 5268 - الثلثاء 07 فبراير 2017م الموافق 10 جمادى الأولى 1438هـ