كان المكان جميلاً ساحراً: جسرٌ معلّقٌ بين مبنيين جميليين، يطلّ على مدينةٍ استثنائية، تحيط بها المياه من جميع الجهات وتتخلّل أزقتها، حتى صارت وسيلة النقل الوحيدة داخلها هي القوارب المائية بمختلف أشكالها ومسمياتها.
بدا لي المنظر وكأنه جسر لالتقاء العشاق، أو لجلوس الشعراء؛ كي يكتبوا أشعارهم، فجمال تصميمه وموقعه يوحي بأنه كان مكاناً يبعث على الفرح، وخصوصاً حين أخبرني المرشد السياحي: إن هذا جسر مهم، قبل أن يكمل حديثه وأتبين فيما بعد أن ما كنت أظنه جسراً لالتقاء العشاق، كان جسر التنهدات الذي شيّد في العام 1600م، وهو الجسر الذي يربط قصر البندقية وسجن محاكم التفتيش، عابراً نهر ريو دي بلازو.
هذا الجسر كان وسيلة نقل السجناء من مبنى السجن إلى قاعات المحكمة، وكان المحكومون بالإعدام حين يمرون من خلاله يطلبون من سجانيهم أن يسمحوا لهم إلقاء نظرة أخيرة على مدينتهم الساحرة، فلا يسمع منهم إلا أصوات تنهداتهم حين يسمحون لهم بذلك، قبل نقلهم إلى قاعة تنفيذ الحكم في مبنى المحكمة.
وقوفي أمام هذا الجسر أحالني إلى فكرتين: أولاهما تساؤل عن سبب عدم استمتاعنا بحياتنا وبما نملك، وإهمالنا الجمال المحيط بنا أو الذي نعيشه؛ إذ كثيراً ما تعترينا حسرة عارمة حين نخسر شيئاً أو شخصاً أو وضعاً أو حين نكاد نخسر حياتنا أو حين نسافر بعيداً عن أوطاننا.
اعتدنا ألا نستشعر السعادة وروعة المحيطين بنا إلا بعد فقدها وفقدهم. اعتدنا ألا نفكر في البوح بمشاعرنا إلا بعد أن يغدو ذلك مستحيلاً، فنندم؛ لأننا لم نخلق فرصة لذلك، ولم نفكر في روعة ما بين أيدينا حينها. أما الأمر الآخر، فهو نظرتنا الخاطئة للأشياء التي نحكم عليها بعكس واقعها. فما كنت أظنه مكاناً رومنسيّاً كان مكاناً للحسرة والألم!
كذلك نفعل أحياناً، حين نطلق أحكامنا على الأشياء والأماكن والأشخاص، فنسمهم بما ليس فيهم ونراهم بالأعين التي نريد أن نراهم بها؛ لأننا حكمنا على ظواهرهم قبل أن نعرف جوهرهم. غادرتُ المكان والأسئلة تعتمر عقلي: ترى كم من الحسرات أطلقها أولئك الذين يعبرون الجسر في ذلك الوقت؟
كم من الذكريات مرّت بهم، بحلوها ومرها؟ كم من الحنين أخذهم إلى الأماكن التي عاشوا بين ربوعها، والأزقة التي لهوا بين جدرانها ومشوا على أرضها؟
من تذكروا في تلك اللحظة؟ وما هو شعورهم وهم يساقون للقاء مصيرهم؟ وكيف كان يشعر من كان يمرُّ من تحت ذلك الجسر وهو يسمع تنهدات من يمرون به؟
وهل كان السجان يسمح لسجينه برؤية مدينته للمرة الأخيرة شفقة أم مزيداً من التعذيب؟! كل تلك الأسئلة، ما ذكرتُ منها وما نسيت، وما تعمدتُ عدم ذكره، جعلني أحمد الله كثيراً على كل نعمة، وأنتبه لقلبي ولمواطن الجمال التي أعيشها وتحيط بي أكثر، وأعشق وطني ومن حولي أكثر وأكثر.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 5266 - الأحد 05 فبراير 2017م الموافق 08 جمادى الأولى 1438هـ
جميل أن تري الحياة بإيجابية ولكن كلما أمعن القراءة في المقال أراني أرى الحياة بعين المسجون الذي يتحسر على جمالية وطنه في رمق أخير
مقال جميل و نظرة ايجابية للحياة شكرا للكاتبة
دائما مبدعة
ويزيدنا المقال لوعة مع مايحدث اليوم في العالم العربي
مقال موفق وهادف
نريد و نحب ان نعيش الامل رغم قسوة الظروف اللهم فرج عنا و عن جميع المؤمنين اللهم ازل هذه الغمة عن هذه الامة
مقال جميل واسلوب رشيق وتنهدات في قلب كل شخص