هناك فئة محدودة من الناس اختصها الله بموهبة التغريد على منوال البلابل والطيور الجميلة. تلون الحياة بأنغامها. ولكن هذه الموهبة وذلك الجمال والتغريد لم يمنحها حصانة ضد النقد. وهكذا خضع الشعراء للأخذ والرد على امتداد الأزمنة والدهور.
وفي أيام العرب احتل الشعراء منزلة رفيعة، في مجتمع يقدس البطولة والحرب ويرفع من شأن الثأر والبطش والتنكيل بالعدو. وكلما أمعن الشاعر في التهويل، ارتفع نصيبه من الإعجاب. فإذا وقف شاعر كعمرو بن كلثوم وصاح:
إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا
فإنه يحجز له مقعدا بين أصحاب المعلقات. وإذا قرأت شعره اليوم تصيبك قشعريرة تهز أعماقك، ولكن إذا تأملت المعنى رأيته كذبة تافهة لا يصدقها حتى من لم يبلغ الفطام! ومن هنا انتبه العرب إلى هذه القضية فقالوا: «أجمل الشعر أكذبه».
هذا عن زمن الجاهلية، أما بعد الإسلام فقد جاءت قيم ثورية جديدة لتفرض نفسها على المجتمع الذي تعرض إلى ما يشبه الثورة الثقافية في العمق. ووقف من هذه الفئة موقفا ظل محل التباس الكثيرين، هل هو معهم أم ضدهم. ومن دون الخوض في التفاصيل نشير باختصار إلى حديث القرآن الكريم عنهم بصورة هجومية: «والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون...» (الشعراء: 224 - 226) ثم استثنى منهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فرسم القاعدة العامة وخصّص الاستثناء. ولن تجد ما هو أكثر دقة وصدقا وإنصافا من هذا الوصف الرائع للشعراء في كل الأزمنة.
وفي ديوان الشعر العربي ستمر على أشكال وأنواع من الشعراء، منهم المبدئي النزيه الذي يحمل خشبته على ظهره خمسين عاما ينتظر بطش السلطة من جهة، ومن جهة أخرى نقابل الخليع والمتخلع، وعاشق الكأس والطنبور، وحتى الشاذ جنسيا. على أن أسوأ صنف منهم الذي تلقاه هو الكذاب، ليس بمعنى المبالغة والتضخيم فذلك ديدن الشعراء، وإنما المداح. فالمداح هو - في تقديري- أسوأ طير في سرب الشعراء . إنه غراب البين الأسود. ولذلك قال نبي الهدى(ص): «حثوا في وجوه المداحين التراب»، فهذا هو جزاؤهم الحق في محكمة الإسلام.
ولو طبق هذا التوجيه النبوي لانقرضت هذه الفصيلة المتملقة المنافقة، ولكنه لم يأخذ طريقه إلى التطبيق للأسف، فاحتل المدح الأجوف ما يقارب ثلث ديوان الشعر العربي. لو وزناه بميزان النقد الأدبي لما ساوى خردلة! فنقرأ مثلا كيف كان الشاعر منهم يقف أمام الخليفة يسبغ عليه من الصفات ما لا ينطبق إلا على رب العزة وحده، ويفصّل له لباسا أوسع من قياس المعصومين، ويلصق على صدره النياشين الكاذبة. أحد العظماء عندما وقف أمامه أحد المتملقين مادحا رد عليه: «أنا أعلى مما في نفسك، وأدنى مما تقول»، فبهت الذي كذب.
وكلما أتيحت الفرصة لمثل هذه الفصيلة بالثرثرة، قاءت على الناس ما تشمئز منه النفوس الكريمة. حتى وصل الوضع إلى أن يحضّر أحدهم قصيدة عمياء عصماء يؤبن فيها الخليفة مسبقا ليلقيها أمام خلفه في اليوم التالي لموته!
ما ضر الشعر العربي لو حذفنا من ديوانه كل شعر المديح الكاذب ونفينا هذه الفصيلة من حظيرة الشعراء؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 57 - الجمعة 01 نوفمبر 2002م الموافق 25 شعبان 1423هـ