العدد 56 - الخميس 31 أكتوبر 2002م الموافق 24 شعبان 1423هـ

شـهادة للحوار... موجباته ودوره

هاني فحص comments [at] alwasatnews.com

عضو في المجلس الشيعي الإسلامي الأعلى في بيروت

كنت واحدا ممن تنبهوا، بعد اتفاق الطائف الذي أوقف الحرب اللبنانية (1989)، إلى ضرورة السعي إلى المشاركة الوطنية في ترتيب أفكار ومسالك وسلوكيات تسهم في ترسيخ السلم الأهلي، ولم نجد إلا الحوار سبيلا إلى هذه المشاركة، باعتباره مناخا للمكاشفة وكشف جهالات الحرب المتبادلة والمتداولة بين اللبنانيين جميعهم، يزيل الغبار القاتم عن المساحات المشتركة في الإيمان والفكر والعلائق والمصالح، ويفتح على إمكان تحريرها وتوسيعها وضبط الاختلاف فيما يتبقى خارجها طبق معايير وطنية متفق عليها، ويقدم أمثولة رادعة لحالات مرشحة للانفجار ومشجعة لها على الوقاية بالحوار.

وبما ان مجتمعاتنا هي مجتمعات دينية أولا، يدخل الدين في تكوينها مرشحة ثابتا ومصدرا لسياساتها الفردية والجماعية، فقد حصل كما اتضح خلال الحرب والمسلكيات والخطابات التعبوية والتحريضية التي مهدت لها وغذتها وأمنت لها وقودا لاستمرارها طويلا، ان التعدد الديني استثمر كغطاء للعصبيات المذهبية والطائفية، وساترا لأفكار واطروحات ومشروعات سياسية تقوم أساسا على نقض الدين والغائه، فالتقى اليمين واليسار تحت الغطاء الديني الذي خضع لتجاذباتهما، ما جعل السلم يقتضي حفظا لهذا الغطاء برفعه عن المتسترين به، من دون كيد أو انتقام، لأننا نحن أيضا نحب ان يغفر الله لنا كبائر الذنوب وصغائرها، ما تقدم منها وما تأخر، وتكليفنا الديني والإنساني ان نقضي على المعصية من دون تفريط بالعاصي، فلابد من إقامة رؤيتنا على موجبات إيمانية وعلى الإيجاب، بما يعني ذلك ويُلزم به من نسيان حقيقي يشكل شرطا لاستشراف المستقبل، الذي يزداد غموضا وتتفاقم مخاطره المحتملة مع تسارع إيقاع الحوادث والأفكار والتوجهات الإضافية والنوعية التي ترتبت على حوادث سبتمبر/ أيلول 2001، ثم تبين ان التعدد الذي هو ميزة لبنان (وغيره بنسب مختلفة ومقاييس مختلفة). وقد قبله اللبنانيون في الماضي على مضض وكأنه حكم الضرورة التي تنتظر الفرصة، أي ضرورة البقاء والعيش الذي لابد ان يكون مشتركا بحكم الوجود في مكان مادي واحد ممتلئ باحتمالات الانفصال والعنف المتبادل، الذي يحوله العيش المشترك (في حدود الضرورة) إلى عنف غير مباشر من دون ان يعني ذلك انه أقل قسوة من العنف المباشر، هذا إذا لم يتجاوز أو يستوعب ويتجاوز من دون ان يتخطى معيارية المصلحة، وإلى المعنى (معنى الوطن) والدور ونظام الأفكار والقيم التي هي مشتركة بسبب الأصل الديني المفترض انه واحد وتوحيدي.

ذلك القبول الملتبس بالشك والريبة جعل الغلبة هدفا تسعى إليه الأطراف كلها، وإن كان التوازن القائم بين الطوائف قد غاب عن وعي المتعصبين ومنعهم من ان يروا ان الغلبة المطلقة مستحيلة أو موهومة، وما حدث من غلبة نسبية لطرف على طرف، مرة هنا ومرة هناك، جعل الغالب يقع في الخطأ القاتل ليرتب على الغلبة المحدودة أحلاما مطلقة، لم تلبث ان تحوّلت إلى كوابيس وانهيارات، فسقطت الدولة على رأس الجميع وتشظى الاجتماع وتراجع منسوب الايمان والالتزام الشرعي وسقطت الطوائف على رؤوس بعضها بعضا ثم سقطت المذاهب على رؤوس الطوائف، لتعود أجزاء المذاهب لتسقط على رؤوس بعضها، تبصرهم بالعواقب الوخيمة لمسلك دفع الاختلاف الطبيعي إلى مستوى التناقض التناحري، وكان لابد ان نؤكد منطقنا بعد التجربة، وهو ان العنف لا يجدي بل هو حتمي الخسارة، ولا مكان معه لربح أو رابح، إلى ذلك فإنه دخيل على الخطاب الديني الصحيح، أو غير متناسب مع التطور التاريخي الذي لابد من بحث عن المطابقة بينه وبين الخطاب الديني، الذي لا يمنع بل يقتضي إعادة قراءته قراءة معاصرة لا تلغيه وتجعله جاهزا لتكييف جدلية الواقع المنجز والنص الناجز، أي قراءة تعيد استنطاق هذا الخطاب وتكف عنه شر القراءة المطلقة التي تحاصره وتحصره وتعطله وتجعله خارج الزمان وموجباته المنطقية، وخصوصا ان الفكر الديني كما فهم دائما، إلا في فترات ظلام دامس، هو فكر تحرير وتغيير ومواكبة وبشارة، فإذا ما تحولت هذه كلها إلى مسوغات للعنف، تحول الدين إلى نقيضه وأجبر الناس على البحث عن نواظم أخرى لإيمانهم الفطري وحاجاتهم الأصلية إلى الاجتماع، ما كان ولايزال، يهدد بانشقاقات وبدع وهرطقات تذهب بعيدا في انفصالها عن الأصل الديني، إلى حد تعويضه لا مجرد تشويهه، من عبادة الشيطان إلى شهود يهوه إلى المماريشي إلى المسيحية الصهيونية، والوقوع في أسر المشروع الصهيوني الذي مازال ينشط بغطاء الدين والدولة، الوطني والقومي والإنساني، المذاهب والطوائف والتيارات العلمانية إلخ... بحثا عن المشتركات وتحريرا وتوسيعا لمساحاتها على أناة وروية، وتحديدا لمساحات الاختلاف وضبط حركته وتفادي تبعاته بشرط ان يكون هناك نشاط مضاعف داخل جزر الحوار وورشه العاملة، من أجل إنتاج المضادات الحيوية اللازمة لمنع تحويل أو تحول الحوار إلى تراث أو سياحة فكرية أو جدل أو تعارف أو تثاقف فئوي لا علاقة له بمجريات الواقع وملابساته واحتمالات تطوره إيجابا أو سلبا، نحو السلام أو الحرب، وليكون إطارا يتيح مراكمة الجهود وتسديدها وتنمية المعارف والعلائق، إعدادا لهذا الشطر من المعمورة، المقيم على منابع الرسالات السماوية وموالد حامليها المطهرة، والمستهدف في وحدته وثقافته وأمنه وإرادته وخياراته وخيراته لأطراف دولية تتذرع بالدين والخلاف الديني لتحقيق مآربها مباشرة ومداورة، من دون ان تقيم أفكارها أو قيمها على شيء من موجبات الإيمان ومضامينه الإنسانية الشفافة.

لقد تبلورت العروبة أخيرا وبعيدا عن إشكالات المشروع السياسي القومي وعثراته وانكشافاته، ناظما مسلَّما للمواطن العربي من أية دولة وطنية أو قطرية اتت لتعيده إلى وطنه أو قطره وأهله وجماعته متسقا منسجما، أي من دون توزع بين العام العربي والخاص الوطني ومن دون ضرورة للاهمال المضر بكليهما، فيكف المواطن العربي المنتظم في مواطنته، عن الاستقالة القومية والوطنية معا، وتنهض القدس بالمخاطر التي تحدق بها جرسا منبها إلى ضرورة الإقامة في المشترك العربي بعد تحصينه بالعلم والمعرفة والتضامن والتكافؤ، لأن هذا السقف (العربي) إذا ما سقط فإنه لن يبقى لأي سقف وطني أو قطري ما يضمن تماسكه وعدم سقوطه، وعندئذٍ تصبح الحدود الوطنية أو القطرية المقبولة كحدود وسيادة واستقلال، جدرانا يستلقي خلفها اللبناني والمصري والليبي والعراقي... الخ في ظلها اتقاء من الحر والرياح والعواصف، ولا تقيه إلا ريثما تشتد المفزعات تزعزع الراسيات وتفتح بابا أو ابوابا على الذاكرة والذاكرات المثقوبة بالأخطاء الفادحة.

وكان الفاتيكان، منذ الفاتيكان الثاني (أواخر الستينات) سباقا في طرح مسألة الحوار بوصفها ضرورة دينية ووجودية، أي سلامة الروح والبدن، ومن هنا لعله تصدى إلى الشيوعية قاطعة الحوار (بالديالكتيك)... على قاعدة الحرية ومقتضى المحبة التي تقوم عليها العمارة الإيمانية المسيحية في مداها العلائقي المسيحي القريب والإنساني البعيد، ثم عاد الفاتيكان ليرى بخوف وغضب إلى الرأسمالية التي تعيد إنتاج نفسها (من الامبريالية إلى الامبراطورية) بوحشية متفاقمة ستؤدي إذا لم تكف عن غلوائها، إلى تهميش المجتمعات وتحويل الشعوب إلى شعوب مقهورة لاهثة وراء حاجاتها اليومية، فكان اندفاع الفاتيكان نحو الحوار تأسيسا لمسار سكوني جديد، يجعل اشتراك الجميع في اطروحة حضارية مبنية على ثقافة تداولية تعددية متحاورة ومستوية على نمط وحدوي توحيدي، لا يلغي ولا يقصي ولا يصادر ولا يستلحق أحدا، أمرا لازما وملزما لكل المؤمنين. هذا في حين اننا مازلنا ننتظر ان تبادر المؤسسات الإسلامية على المستوى الوطني أو العربي أو الإسلامي إلى ملء الفراغ المتمادي في هذا المجال.

أما مد هذا الحوار إلى اليهود واليهودية، فشرطه لدينا أو لنا أو علينا ان نستوي مع اليهود على وضع طبيعي، ولن يتحقق ذلك إلا بفلسطين وفيها... فلسطين هي شرط الحوار الأول والأخير، ولا ندين من يحاور عليها بشرط ان تتحرر اليهودية من الصيهونية، بما هي قناة امتثلت أخيرا للبعد الخرافي في اسطورة التأسيس الأميركي على الإرادة الإلهية كغطاء للجريمة التي ارتكبت في حق السكان الأصليين للقارة المكتشفة وقتها... وإن كان الفارق ان الشعب الفلسطيني غير قابل للإبادة... أو تطور الصهيونية نفسها أو تطور اليهودية، بحيث لا تبقى اختزالا لليهودية ومصادرة لها وفصلا عن مناخها التوحيدي... ما يبدو انه أصبح بعيد المنال بعدما ظهر وكأنه وعد به (المؤرخون الجدد... تيار ما بعد الصهيونية) مما عاد واندك في المسار الشاروني الذي يحاول ان يعيد تأسيس المشروع على مقتضى الترويج لصراع الحضارات ونهاية التاريخ...

إذن، على مفصل حضاري واعد وشائك ومتوعد وغامض ومثير، في مطلع الألفية الثالثة، ألفية روح الله، وأمام علامات الأزمنة الجديدة، أمام العولمة وازدياد الفوارق الطبقية بين الشعوب وداخلها حدة وسعة وشمولا، والتهديد المحيق بالشعوب الضعيفة والمستضعفة، للاستحواذ عليها مسلوبة الإرادة ممنوعة من التقدم والتعبير عن ذاتها وحاجاتها وأوجاعها إلا بالعنف العشوائي ضد الذات والآخر، وعلى مفصل عربي، جعلته إرادة التخلف وقرار التخليف (المؤصل!!!) وانسدادات عملية السلام، وانحلال حال التضامن التي أتى نعيها الأول في موتها السريري من طرابلس الغرب، وارتفاع وتيرة السجالات الداخلية مقدمات الحروب الأهلية بين مكونات الاجتماع الوطني في كثير من الأقطار العربية الراسخة تاريخيا والمهددة إما بالتفتيت أو التفسيخ في المدى المنظور (والعياذ بالله) أي كل ما يجعل المفصل العربي والإسلامي شديد الخطورة... تتعاظم الحاجة إلى تأسيس وتجديد نصنا الديني على أساس المواطنة والعيش المشترك بالحوار، أي إرساء التعارف والتثاقف والمكاشفة والبحث عن شروط الآخر في الذات وشروط الذات في الآخر، وتأهيل الذات والآخر إلى هذا التشارط التكويني قطعا للطريق على التيارات الأصولية العلمانية التي تسوغ اندفاعتها في سبيل اطراح الدين ونفيه بحجج تستمدها من وقائع الحروب الدينية المتنقلة (المسيحية - المسيحية، والمسيحية الإسلامية، والإسلامية الإسلامية) حتى نكاد نحن نتشدق بأن الحروب التي جرت والتي هي جارية أو أغلبها هي حروب دينية أولا وبامتياز حصري... كأن الدين هو سببها... بينما تتساكن وتتسالم وتتناصر تيارات الإلحاد على اختلاف مناشئها ومشاربها ومصالحها، وتتواد وتتراحم وتتحاب مثل ما يأمرنا نظام الدينين، وأكثر مما يتورد ويتراحم أبناء الأديان أو الأديان السماوية أو الأديان التوحيدية أو أبناء الدين الواحد أو المذهب الواحد... حتى عندما يجمعهم جامع واحد أو بيعة واحدة أو خطر واحد أو عدو واحد أو حزن واحد أو فرح واحد... وحتى يكاد يبدو الجامع مفرقا من دون ان يتحول المفرق إلى جامع على ما يمكن ان تنزل عليه شكوى الراعي الاعرابي:

«تفرقت غنمي يوما فقلت له... يا رب سلط عليها الذئب والضَّبُعا».

وهذه حال تحرجنا وتتحدانا ان نعيد للتدين روحه وصدقيته وسلامته من الغل والدغل، أو نفرق تفريقا قاطعا بين الدين وتشوهات أو تشويهات التدين!!

إقرأ أيضا لـ "هاني فحص"

العدد 56 - الخميس 31 أكتوبر 2002م الموافق 24 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً