حمص. إن أجمل المدن هي تلكَ التي تنمو بين أصابعِ ضجرك كأشجارِ نخيلٍ تأخذكَ حتى السماء مثلَ سفرٍ طويلٍ، كلُّ ما فيكَ يتخذ شكلَ الاتساع بما في ذلك، روحك.
حدثت لي أمورٌ لا تُحصى في تلك المدينة، قبلَ الحرب بشهقة عُمرٍ كانت حِمص تلدُني من جديد، تُرسل لي ككل الأمهات إشارات حبها الذي لا ينتهي.
مازلت أفكر بذاك الشاب الذي قابلته فيها سنة 2011م، شابٌ وسيمٌ، أنيقٌ، له ابتسامة تختلف تماماً عن كل الابتسامات كما لو أن الله ميزَه بها.
أراقبه مثل مشاغبة صغيرة لمحت فيه طفولتها التي تركض حافيةً وراء غزل البنات في لحظة عيد، أراقبه بعينيّ قلبي الذي ينتفضُ شوقاً كلما لاح ظلهُ من بين كلّ الأضواء، فتلاحقه قدماي وأسرع في الوقوف متخفيةً خلف شجرةٍ حينما يقف.
وفي كلّ مرةٍ يقف فيها، يلتفتُ إليّ ويضحك.
أسميتُ تلك الشجرة بالشجرة المباركة، كنتُ أعتقد أن كل الأشياء الجالبة للحب هي أشياء مباركة حتى لو كانت مجرد نباتات لا تتكلم.
حفظت خطواته، حفظتُ العلامات التي كان يحصل عليها في الجامعة، راقبتُ ألوان وجهه، باردٌ هو في الشتاء كلون الصقيع على حافة ريح، ساخنٌ وجهه في الصيف كحبة توت بريّ نضجت وسالَ لعاب أنوثتي عليها، حفظتُ ضحكاته المختلفة، ضحكة باهتة حين يكون نصف حزين، ضحكة قوية حين يكون سعيداً، ضحكة لطيفة حين ينظرُ إليّ.
في أحد الأيام كان يجدر بي البقاء في الجامعة حتى الرابعة ظهراً، في ذلك اليوم اِنتظرَني.
حين خرجتُ، لَحق بي وكنت أعلم أن ثمرة اللقاء قد نضجت وأنه آن أوان قلبينا كي ينبضان معاً.
*يا أنسة... يا أنسة..
ألتفتُ إليه، أراني فيه، ثم تسكب التقاليد الرخيصة حولي كلَّ الممكن المستحيل، أحاول تجاهلها ولكن عبثاً.
يقتربُ مني، يلوذُ وجهي بكتفي، تلوذ امرأةٌ شرقية بما علمها رجلُ القبيلة، أسأله بثقة الجاهلة:
ما هو دينك؟
ليتحطم أمرُ الحبّ في بقاء الحب دون فراق.
«ما هو دينك»؟! أيُّ مسٍ أصابني؟
أيُّ سؤال رديء خطر في بالي، أمامه؟
أحياناً أتساءل بحزن، من المسئول عن تقسيم أرواحنا نحنُ الذين نسكن قلباً واحداً يدعى، وطن.
أمضي عنه، إليه.
أمضي إلي، بعيدةً عني، وأظن بكثير من التفاخر أني ابنة أبي، ابنة الجهل الذي قادَ كلٌّ منّا في اتجاه، كلٌّ منا يحمل جذراً اقتلعه بصمت من تربة الحب العقيمة وقبل أن تتعمق الجذور في تراب المجهول، يموت الحب واقفاً.
في سنة 2016م وأثناء زيارتي اليتيمة لمدينتي الأم، حمص.
وبعد سنواتٍ من دمار لحق بها فحطمها وحطمني، ألتقي به من جديد.
نصف امرأة كُنتُ بدونه، نصف امرأة حرة، نصف امرأة شجاعة وما تبقى أنصاف جُبن وخوف وقيود سخيفة.
التقينا وجهاً لوجه، كما لو كانت حِمص تُرتب لنا لقاءاً من بعد خرابنا.
ترتب لنا سلاماً من بعد حرب
ترتب ربما ، حُباً من بعد ضغينة.
أمام وجهه كانت سنوات عمري تركض نحوه فأركض معها طفلةً في العشرين .
أبتسمُ، أضحكُ، أهمس له:
يا أنت، يا أنت، ما هو اسمك؟