هل يمكن أن يكون هذ العام الجديد والأعوام المقبلة سنوات خير على العرب وأوطانهم؟ وهل يمكن تحقيق مستقبلٍ عربيٍّ يكون العرب فيه أفضل حالاً ممّا هم عليه الآن؟
لعلّ السبب في طرح هذا السؤال عن كيفية تصوّر مصير المستقبل العربي، هو هذا التردّي الحاصل في بلاد العرب. فنظرةٌ شاملة للواقع العربي الراهن تنذر بأسوأ الاحتمالات والمخاطر. فقلب المنطقة العربية عليل، وأطرافها تتآكل، بينما العقول والكفاءات العربية تهاجر إلى المستقبل المجهول.
للأسف، هناك الآن حالة «تكيّف» عربي مع ظواهر مرضية خطيرة تنخر الجسم العربي وتعطب بعض أعضائه، كما هو الحال أيضاً مع أوضاع فساد سياسي واقتصادي وصلت إلى حدّ العفن، إلّا أنّ من يعيشون في هذه الحالة المرضية وحولها اعتادوا على رائحتها الكريهة!
فكيف تستطيع أمّةٌ أن تنهض من كبوتها، وممّا هي عليه من سوء حال، إذا كان عددٌ من صانعي الرأي أو المرجعيات الدينية فيها يتنافسون على الفضائيات، وعلى صفحات الجرائد بما يؤدّي إلى مزيدٍ من عوامل الانقسام والانحطاط في أحوال الأوطان والمواطنين!
وكيف ستقدر هذه الأمّة على مواجهة التحدّيات الخارجية والداخلية إذا كانت الحكومات منشغلة الآن في كيفية إدارة شئون السلطة لا الوطن، وفي توفير ضمانات الاستمرار في الحكم وليس تأمين صمّامات الأمان لوحدة الأوطان وتقدّمها؟
كيف سيكون هناك مستقبل أفضل للشعوب والأوطان وللأمّة ككل إذا كان العرب مستهلكين إعلامياً بأمور تفرّق ولا تجمع؟
أيضاً، هناك في هذه الأمّة حالمون يعيشون أوهاماً عن السلام مع عدوٍّ لم يعرف إلاّ لغة الحرب والقتل والدمار، بينما يحاولون عزل حركات المقاومة ووأدها.
وهناك في هذه الأمّة من يتحدّث عن «يقظة دينية» بينما هي في معظمها عودة إلى «أصولية جاهلية» أو اهتمام بالعبادات فقط وتجاهل لمبادئ الدين وقيمه.
ومسكينٌ هو هذا الجيل العربي الجديد الذي يتمزّق الآن بين تطرف سلبي لا مُبالٍ وبين تطرف جاهلي يدفع بعضه، باسم الدين، للعنف ولما هو من المحرّمات الدينية أصلاً.
لكنّ الخطر الأكبر الذي يواجه العرب حالياً هو تساقط الأوطان العربية واحدها بعد الآخر، وانشغال شعوب المنطقة بصراعاتها الداخلية، فمِن رحْم هذه الصراعات تتوالد أزمات سياسية وأمنية كثيرة أبرزها الآن مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، إضافةً إلى التنافس المسلّح على السلطة والحكم، بل وعلى المعارضة أحياناً.
إنّ العرب اليوم هم بلا قضية واحدة، وبلا قيادة جامعة. والمسئولية هنا، عن تردّي الواقع العربي، شاملة شمولية المجتمع العربي بكلِّ ما فيه من حكّامٍ ومحكومين، من رسميين ومدنيين، من سلطاتٍ ومعارضات!.
هي مشكلة كذلك في موقع الأرض العربية وثرواتها، وما حولها من طموحات إقليمية ودولية. ففي ظلّ الواقع القائم على التجزئة، تتخبّط الأفكار والتجارب والأوطان. إذ إنّ محاولات تقسيم الأوطان والشعوب العربية الآن تتمّ أصلاً على أرضٍ عربية مجزّأة منذ عقودٍ طويلة. فالحاضر هو ما كان المستقبل بالأمس، وهو الماضي غداً، وهذا يعني أنَّ العرب يواصلون في حاضرهم مزيجاً من سلبيات التاريخ والجغرافيا معاً، وخاصّةً أنَّ العرب لم يدركوا بعد مخاطر هذا الانفصام الحاصل بين هويّاتهم المتعدّدة، أي بين أن تكون لهم هويّة ثقافية عربية واحدة وانتماء حضاري واحد، وبين واقع لا يجسّدون فيه ذلك بأيِّ شكلٍ فاعل، لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا أمنياً... ولا حتّى ثقافياً.
لديّ قناعةٌ كاملة بمنهج «جدل الإنسان» الذي صاغه المفكّر العربي المصري الكبير المرحوم عصمت سيف الدولة، هذا المنهج الذي يشير إلى أهمية دور الإرادة الإنسانية في حسم الصراع الذي يدور داخل (الإنسان- الفرد) وداخل (الإنسان – المجتمع) بين «الماضي» و»المستقبل» من خلال ما عليه «حاضر» وواقع هذا الإنسان أو المجتمع من تحديات واحتياجات. لكن مشكلة العرب الآن أنّهم إمّا يعيشون أسرى الماضي فقط، أو يتعاملون مع رؤى للمستقبل، بمعزلٍ تامٍّ عن واقعهم في الحاضر وتراثهم من الماضي. ففي الحالتين، اجتزاءٌ من العناصر الثلاثة التي تفرض نفسها في تطوّر الناس والمجتمعات.
وإذا كان «الزمن» هو «البُعد الرابع» علمياً في «القياسات»، فإنّه أيضاً «البُعد الرابع» في الأزمات وفي مقوّمات الحياة عموماً. فهو «البُعد الرابع» في مفهوم «الدولة» التي تقوم على (أرض وشعب ومؤسسات حكم)، حيث نجاح تفاعل هذه المقوّمات الثلاث يوجِد مع مرور «الزمن» الدولة العادلة والمواطَنة الصالحة والوطن الواحد. كذلك، هو «البُعد الرابع» في نشوء «الحضارات» واستمرارها حيث التلازم المتواصل زمنياً بين (القوّة والعلم وحرّية الإبداع)، وهو أيضاً «البُعد الرابع» في ممارسة «الأسلوب العلمي» في العمل العام، والذي يقوم على التخطيط الجامع بين (النظرية والإستراتيجية والتكتيك). وأرى «الزمن» أيضاً «بُعداً رابعاً» في مسألة «الهُويّة» لدى العرب حيث يتوجّب، بمرور الزمن، التفاعل الإيجابي في المنطقة بين «هُويّات ثلاث» هي: الوطنية والعروبة والإيمان الديني.
العرب يفتقدون حالياً كل هذه المقوّمات التي يمكن أن يتفاعل معها «الزمن»، فلا هم يبنون الأسس السليمة لـ»دولهم»، والتي هي بمعظمها مهدّدة الآن بخطر التفكّك، ولا هم يتقدّمون في عناصر «الحضارة»؛ بسبب عدم توافر القوّة والعلم وحرّية الإبداع، ولا هم حتماً مجتمعون على «رؤى مستقبلية» أو على خطط إستراتيجية مشتركة تُحقّق تضامناً عربياً يصون الأمّة وأوطانها ووحدة شعوبها. المشكلة في حاضر العرب هي قائمة أيضاً في التناقضات والصراعات التي أوجدوها داخل «ثلاثيّة هُويّتهم»: الوطنية والعروبة والإيمان الديني، بينما إسرائيل تفرض نفسها على العالم كدولة هُويّتها «يهودية» رغم اغتصاب فلسطين وتهجير شعبها، وتملك «مشروعاً صهيونياً» لمستقبل المنطقة عمره أكثر من 100 عام! فالمنظمة الصهيونية العالمية نجحت في توظيف «الزمن» وفي ممارسة منهج «جدل الإنسان» بينما العرب غارقون في الجدل حول طوائفهم ومذاهبهم وجنسهم!.
إنّ النقطة المركزية التي تمحور بشأنها الاهتمام السياسي والإعلامي العربي خلال السنوات القليلة الماضية، هي مسألة تغيير الأنظمة وتحقيق الديمقراطية وفق آليات انتخابية، دون الانتباه إلى أنّ أساس العطب في الجسم العربي هو في الفكر أولاً الذي من خلاله تتحدّد طبائع أنظمة الحكم والقوى المعارضة لها أيضاً، لكن هذه الحقيقة البَدَهيّة لا تأخذ الآن موقعها الصحيح في سياق التفاعلات التي تشهدها عموم البلاد العربية حالياً... فهل دور الفكر هامشيٌّ في تطوّر الأمم والمجتمعات؟ لو كان الأمر كذلك، كيف نُفسر تحوّل مسارات أمَم بفعل أفكار سبقت نهوض تلك الأمم؟
حدث ذلك مع العرب حينما ظهرت الدعوة الإسلامية، كما حدث ذلك أيضاً مع الأوروبيين في القرون الوسطى من خلال تأثّرهم آنذاك بأفكار الفيلسوف ابن رشد، فكانت «المدرسة الرشدية» هي وراء الدعوة لاستخدام العقل وتحريك سياقات الإصلاح والتنوير بعد عصور الظلام الأوروبي. كذلك كانت لأفكار الثورة الفرنسية تأثيرات كبيرة على شعوب كثيرة في العالم، وهكذا كان الأمر مع الأفكار والنظريات التي غيّرت مجرى تاريخ روسيا والصين وبلدان أخرى في القرن الماضي.
والحديث عن الفكر لا يعني فقط النخب المثقفة في المجتمع، بل هو شامل لما يسود الأمَّة من تراث فكري ومعتقدات وعادات وتقاليد ومفاهيم لأمور الدين والدنيا، شكّلت بمجملها الواقع العربي الراهن.
أيضاً، تظهر المشكلة الفكرية بشكل حادٍّ في كيفيّة قبول بعض العرب والمسلمين عموماً لمبدأ استخدام العنف الدموي المسلّح ضدَّ مدنيين أبرياء، أينما حصل ذلك، من حكومات أو من معارضات، دون وجود ضوابط فكرية حازمة في التعامل مع هذا الأمر.
فإصلاح الفكر العربي (الديني والسياسي) وتحسين واقع المفكّرين العرب وتحريرهم من القيود والضغوط، هي خطوات مهمّة في بدء مسيرة طويلة منشودة لبناء مستقبل عربي أفضل، وسيكون هناك حتماً مستقبل عربي أفضل حينما يقوم الشباب العربي بدورٍ أفضل ممّا يفعله الآن. وسيكون مستقبل الأوطان أحسن حالاً حينما تتحوّل الحكومات إلى أنظمة دستورية مرجعيتها الشعب ومصالحه لا مصالح الفئة الحاكمة فقط. وستنهض الشعوب والمجتمعات حينما تتحوّل الحركات السياسية إلى قوًى جامعة فعلياً لكلّ أبناء أوطانها فلا تنسخ سيّئات الواقع الانقسامي إلى داخل أفكارها وقياداتها!.
كذلك في فلسطين الخاضعة للاحتلال، فإنّ المستقبل الأفضل مشروطٌ بالتخلّي عن «نهج أوسلو» وبتوافر مقاومة سليمة قائمة على أرضية وطنية مشتركة، وليست تعبيراً عن عقائد فئوية قد تنجح في تحرير أرض لكنّها تفشل في بناء وطن واحد.
إقرأ أيضا لـ "صبحي غندور"العدد 5260 - الإثنين 30 يناير 2017م الموافق 02 جمادى الأولى 1438هـ