في هدوء وصمت رحل عن دنيانا الناشط الحقوقي الدولي البروفيسور البريطاني نايجل رودلي، ولولا «الوسط» التي لربما تكون إحدى الصحف العربية القليلة التي سلّطت الأضواء على الخبر وعلى شخصيته، لما كنا نحن المدمنين على متابعة الحوادث من المصادر الإعلامية العربية بالدرجة الأولى على علم بالخبر، وإن كنا لم نعرف بعد ظروف وفاته المبكرة نسبياً (75 عاماً) وهو في أوج عطائه إلى حد فترة قريبة خلت. ومن المؤسف أن تغادرنا شخصية حقوقية مستقلة معتدلة مرموقة وبهذا الوزن دون أن يستحق منا لا في بلادنا ولا في العالم العربي بأكمله، سطرين من الرثاء لا على الأصعدة الرسمية، ولا على صعيد مؤسساتنا السياسية والحقوقية والمدنية، اللهم حالات محدودة إن وُجدت، هذا على رغم رصيده الكبير في الدفاع عن حقوق الإنسان في المنطقة العربية.
وإذا ما تذكرنا أن ساحات الدفاع عن هذه الحقوق، قُطرياً ودولياً، لا تخلو من «التسييس» وبخاصة في عالمنا العربي، بمعنى تجيير القضايا الحقوقية أو خلقها لأغراض سياسية وأيديولوجية، فإن خسارة أي شخصية دولية أو وطنية من هذا الطراز تغدو مُضاعفة لندرتها في هذه الساحات دولياً بوجه عام وقُطرياً بوجه خاص، فمهما كرهت الأطراف المتنازعة في قضايا حقوق الإنسان التقارير المحلية أو الدولية المتعلقة بها، فإنها أفضل لها أن تصدر عن شخصيات أو جهات محايدة متجردة في رصدها لانتهاكات حقوق الإنسان لا يرقى الشك إلى نزاهتها، كما كان يجسدها الراحل رودلي، من أن تصدر عن جهات مُتحيزة لا تتمتع بأدنى ثقة دولية، ولا ترضي إلا الطرف المكابر الذي شاء أن يجعل من نفسه أضحوكةً على الساحة الدولية بإصراره على الإفراط في اضفاء الطهارة على نفسه.
ومع أن رودلي شارك في لجان تحقيق دولية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، جرى لغط دولي كالعادة بشأن مدى شفافية تقاريرها، وبشأن مدى نزاهة أو تجرد بعض أعضائها إلا أنه كان من القلة التي نالت احترام الجميع، وكان بمنأى عن التشكيك في ضمير شرفه الرسالي في هذه المهمة الإنسانية المُقدسة، وعصياً دوماً على الشراء في عصر كثُر فيه مُبدلو جلودهم، ليس في الأحزاب السياسة المعارضة؛ بل وفي المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية، هو الذي كان أحد مؤسسي مركز حقوق الإنسان بجامعة «إسيكس» التي صرح ناطق باسمها بأنه كرّس حياته لمناهضة التعذيب وغيرها من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وتعشّم ضحاياها في طهارة ضميره كمنارة أمل في رد الاعتبار إليهم وحقهم في التعويضات التي لا تسقط بالتقادم طبقاً للتشريعات الدولية، كما كان ثاني أهم شخصية في لجنة تقصي الحقائق التي شكلها جلالة الملك وأعلن قبول تقريرها الختامي في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2011، والذي لعله أضحى من الوثائق التاريخية التي تعادل أهميتها، على سبيل المثال، في تاريخنا الحديث أهمية تقرير الإيطالي ونسبير جويشياردي المبعوث الشخصي لأمين عام الأمم المتحدة العام 1968 يوثانت لتقصي رأي الشعب البحريني عشية إنهاء «الحماية البريطانية» عن بلاده والذي خلص إلى أن البحرينيين «مجمعون على الحصول على دولة تتمتع كلياً بالاستقلال والسيادة، فيما أفادت الغالبية الساحقة منهم بوجوب أن تكون هذه الدولة عربية»، مُضيفاً «فحتى رجال الدين من الطائفتين السنية والشيعية اتفقوا على رأي موحد». (البحارنة، دعوى إيران بالسيادة على البحرين، ص 111).
وإذ رثاه المتحدث باسم جامعة إسيكس قائلاً: «سوف نفتقده كثيراً في الجامعة وجميع من عرفه في العالم وهو البريطاني الذي يعيش وشعبه تحت مظلة ديمقراطية وحقوقية عريقة»، فمن باب أولى أن تفتقده على نحو أعظم ملايين من شعوب العالم، وشعوبنا العربية بخاصة، والتي تغبط البريطانيين على تمتعهم بمثل تلك المظلة، فضلاً عن حركة حقوق الإنسان العالمية باعتباره على حد تعبير مديرة مركز حقوق الإنسان في الجامعة نفسها كلارا ساندو، واحداً من الآباء المؤسسين وباعتباره كان إنساناً معلماً ملهماً وسخياً في عطاءاته الصادقة.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5260 - الإثنين 30 يناير 2017م الموافق 02 جمادى الأولى 1438هـ