ربما قد لا يفسح الخطاب اليومي المتداول المجال للنظر بوضوح كبير لملامح البناء الهرمي لمفهوم الجندر، بمثلما عليه الحال مع الصفات القيّمية المسندة إلى المرأة حينما تؤدي أحد الأفعال المتضمنة لمحمولات تشير إلى الأصول الذكورية الراسخة في ثقافتنا العربية. فعندما يتعلق الأمر بقيام المرأة بأفعال تحتاج إلى الشدة والصلابة والعزيمة... إلخ من أسماء الكلمات التي تدخل ضمن مقولة القوة، فعادة ما يجري استعمال صفة «الرجولة» وإلصاقها بالمسند إليه «المرأة». لتستحق هذه المرأة هذا «التقريظ» بأن يقال عنها حينئذ إنها «رجل/ أو بمئة رجل» في أحسن الأحوال. ولتصبح علامة متضخمة برموز الاسترجال والفحولة التي جرى من قبل تعبئة الرجل بمحتوياتها اللغوية الأيديولوجية وتوجيهها وبما يتلاءم مع فضاء الخطاب الشوفيني المسيطِر. سواء كان قد تبدّى ذلك في ساحات الأسرة والمطبخ وتربية الأطفال بالنسبة للمرأة؛ أو في ساحات الوغى/ العمل والدفاع عن الحقائق المطلقة والثابتة في العزة والكرامة والذود عن حياض الوطن بالنسبة للرجل.
فتغدو المرأة كالرجل مجرد حامل أيديولوجي يتوارث ويُورِث جينياً/ ولسانياً محمولات لغوية = وقيّمية = وأحكاماً أخلاقية محبوسة ضمن قضبان معايير منطق الذكورة والفحولة الهرمي المتأصل في جلّ تراكيب عباراتنا اللغوية وحروفنا وأصواتها وجُمَلِنا وحركاتها ومواضع إعرابها وتصريفها النحوي/ والذهني/ والسلوكي/ والأخلاقي، بل في أسلوب نطقها ومناسبات قولها وفي خصوصية توجيهها إلى مخاطَب بعينه دون آخر بحسب تصنيفه وترتيبه الطبقي الذي يمنحه مؤهلات وامتيازات معينة تضعه إما في موضع التفضيل والإعلاء أو في موضع التنكيل والإقصاء.
وهكذا، يكون لكل كلمة ما يقابلها من معنى «دالّ على افتراضات ذهنية وضعانية منطقية محدَدَة ومحدِدِة» لمجمل استجاباتنا وادراكاتنا لعالم المحسوسات المتكثِرة والمتغيِرة والمتحوِلة في الهنيهة الواحدة. فما بالك إذن في حقب تاريخية ضاربة في القدم كانت قد مرت على الثقافة العربية، دون أن يتحقق منعرج لساني هائل قائم على مراجعة نقدية لبنية تلك التراكمات اللغوية المؤسساتية الهرمِة والمتضخِمة في آن واحد. إنها أصول المعاملات الخطابية اليومية المتداولة حيث تزدهر الأيديولوجيات الأحادية المسيطرة وتنتفخ آليات القسر والعنف الرمزي في مجمل صور الحياة ابتداء من أبسط موقف وحوار بين شخصين اثنين حتى أصعب محاورة يمكن لها أن تجمع بين زعماء سياسيين عرب «يتحدثون خلالها عن الشئون السياسية» دون أن يفهموا الاختلاف بين «التحدث عن» من «التحدث مع». فما زالت النخب السياسية والثقافية العربية تستند على «الصحيح التوتاليتاري/ الشمولي» القائل بوجوب ترك بدْعة المخاطَب ونبذه، والأخذ بِدِعة الحديث فقط عن أسماء الكلمات لأنها تجنبنا الوقوع في فتنة السؤال عن المعاني وأصول تشكيلها التي قد تزعزع وحدة الصف.
لذلك، أصبح من المعتاد بل ومن المتآلف عليه في خطابنا الثقافي، أن نتفرج ونطالع بإفراط ظاهرة الترديد والتكرار التوتولوجي لمسلمات ذلك «الصحيح التوتاليتاري/ الشمولي» وبأسلوبيات لغوية نمطية فقيرة في استعمالات البلاغة النقدية وتقنيات الحجاج الاقناعي. لكونها حددت منذ البدء قضايا بديهية ومقدمات أولية ذات صلاحية غير نافدة، تدعو إلى التسليم والخضوع لمعطيات الخطاب السائدة، لتقضي نهائياً على أي محفزات لولادة إمكانيات التلقي النقدي لدى المخاطَب الملغيّ مسبقاً.
العتاد الاستعاري
ففي معرض حديثه عن النتائج الايجابية التي حققتها زيارة عدد من الناشطات والأكاديميات لرئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، كتب فهمي هويدي: «أثار انتباهي تحرك السيدات السبع حين أقدمن على ما لم يفعله الرجال». وكأن عناصر الالتفات والانتباه بل والاهتمام التي يستحقها فعل تلك النساء، لم يكن لها أن تكون وتتكون إلا بشرط إرادة تحققها بوصفها فعلاً رجولياً لا يصدر إلا من نوع واحد هو الرجل = جنسه ذكر = ميزته الفحولة. وبمثل هكذا عبارات تتدثر حتى تندثر الكثير من التصنيفات والحمولات المشحونة بكامل العتاد الاستعاريّ القيّمي والأحكام الأخلاقية حيث يوضع لكل كائن يولد جنس بيولوجي معين، ونوع اجتماعي محدَد ومتعيِن وفق مستوى الكفاءة والأهلية في الامتثال والخضوع اليومي تتلاءم والأداء اللغوي أي الممارسات الاجتماعية، على رغم كل ما فيها من متناقضات حادة ومتضادات غير منسجمة تماماً.
ومع ذلك التلازم الثابت بين الأفعال الايجابية المنتجِة وبين صفة الرجولة، يضيف إليها هويدي صفة «الانتقال من القول إلى الفعل». حتى تكتمل «إرادة المتكلم» في وصف ما تقوم به المرأة، بسمة «الفعل الرجولي». ولكي يُسند إليها أيضاً صفة «المرأة الرجُلة» وتتحد الأيديولوجيا الذكورية المتعالية مع الكائن المحايث/ المرأة ويجري معها التغاضي عن أفعالها الآثمة والتي جلبت عواقب وخيمة إلى الرجل بخروجه من الفردوس والى سلالتهم البشرية جمعاء. وهنا يُكمل هويدي: «في الثقافة العربية والإسلامية ثمة تفرقة بين الرجولة والذكورة، فالأولى قيمة والثانية جنس، ولأن الرجولة ارتبطت عند العرب بفضائل الشجاعة والمروءة والشهامة وغير ذلك، فلا يعد كل ذكر رجلاً، لذلك عرفت العرب «المرأة الرجلة». وهو وصف أطلق على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي نقل عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قوله إنها «رجلة الرأي». وفى كتب التراث أخريات أطلق عليهن الصفة نفسها. كما أن المصطلح أخذ مكانه في مختلف معاجم اللغة العربية».
بهذه الطريقة، ينتهي مقال «نساء رجُلات». ومع بلاغة تلك العبارات وسحر استبدال كلمة ذكر بكلمة رجل لوصف أفعال المرأة حالما تعبر عن الشهامة والشجاعة والاستبسال، تمّ العبور بسلام إلى ضفة أنموذج «التلقي الخَمول» حيث المقولات اللغوية الجاهزة للاستثارة في ذاكرتنا، والحجج العامة والمعدة سلفاً للاحتكام إليها عند الحاجة. وجرى معها تمرير العديد من المفاهيم الإشكالية في ثقافتنا العربية، والمرور على قضية شائكة للغاية تتعلق بمفهوم الجندر وإشكالاته اللغوية والذهنية والجسدية وما يستوجبه من ضرورة القيام بمراجعة نقدية شاملة فيما لو أردنا الاتجاه نحو بناء اجتماعي وأخلاقي وسياسي وقانوني ديمقراطي صحيّ إلى درجة معقولة. والتخلص مما يعيشه الواقع العربي من إفرازات لغوية مرضية تتجسد في شكل تكتلات قبلية ونخبوية وطائفية منغلقة على هويتها وحقيقتها الأحادية التي لا ينحدر منها إلا كل ما هو صحيح وصائب وجوهري وصادق وحق وادعى للدفاع عنه بالسيف أمام الثقافات الأخرى المعبرة عن الزيف والباطل والظاهري والخطأ والكذب.
أضف إلى ذلك، أن النص المذكور أعلاه أهمل قضية الخلط الحاصل بين مفهوم الجندر وبين مفاهيم الجنس والنوع في لغتنا العربية وثقافتنا بشكل عام، فكأنه ظهر من المسلمات بصدقها. فحصل نتيجة لذلك، تمييع أيديولوجي لقضايا تخص مجمل العلاقات المؤِسسة لمجتمع تعددي الثقافات ومنصهِر ومنسجم تحت شرعية قوانين تحترم الإنسان وتسعى إلى تحسين شروط حياته. وبالطبع، لا يمكن أن يحدث ذلك دون إحياء فلسفة التأويل للمواد القانونية وإعادة قراءتها وتقديم تعديلات وبما ينسجم وروح الاحترام إلى قيمة الإنسان التشريعية التي تأسست على أهمية تنظيم القوانين وإنتاج أنظمة لغوية وقيّمية وأخلاقية مبتكرة وجديدة.
وهنا نتساءل، كيف يمكن مع وفرة وسيطرة «النصوص التبريرية» لبنية الثقافة اللاتاريخية واللاسياسية واللامدنية حيث تبطح بالآخر المختلف أينما حلّ وحيثما ظهر، أن نؤسس لثقافة حِجَاجية نقدية جديدة، نبدأ فيها النظر إلى المطبخ مكان إعداد الطعام، بوصفه خطاباً سياسياً يتطلب منا التحليل والنقد والكشف عن منظومات التحصّن الأيديولوجي الاستبدادي في بيوتنا أنفسها بحسب تعبير فاطمة المرنيسي.
* فهمي هويدي: «نساء رجُلات»، مقال، صحيفة «الشروق»، السنة الثامنة، العدد 2912، ص12، الأحد (22 يناير/كانون الثاني 2017).