العدد 54 - الثلثاء 29 أكتوبر 2002م الموافق 22 شعبان 1423هـ

تنبؤات المستر هيرمان كاهن

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

عالم المستقبليات هيرمان كاهن، الذي ظل مشرفا لسنوات طويلة على معهد هدسون ومؤسسة راند المعنيين بالشئون الدولية والامن القومي، كان من اوائل المتنبئين - وعلى نحو مبكر - بتحول اميركا مع نهاية القرن العشرين الى امبراطورية على غرار الامبراطورية الرومانية تخضع العالم باسره لسيادتها و«كاهن» نفسه طرح في اكتوبر/ تشرين الاول 1983 مجموعة تنبؤات للقرن الحادي والعشرين، اورد فيها «ان العرب سيتعرضون للاستئصال في السنوات الاولى من القرن الحادي والعشرين وعلى نحو ما حدث للهنود الحمر في اميركا»!

فهل اصبحنا على موعد مع هذه النبوءة؟

بالطبع من غير الممكن تصور حدوث ذلك، ولكن بالمقابل متابعة للدوريات المتخصصة الاميركية وما يتسرب عن بعض مراكز البحوث والدراسات ينبىء ان العالم مقبل على مسلسل طويل من الحروب الحاسمة التي ستخوضها اميركا على مدى السنوات المقبلة. فاميركا عازمة على جعل العالم باسره يتحرك على وقع خطواتها وايماءاتها. وفي المخيلة الاميركية، ان الاولوية لبلوغ هذه المرحلة تنصب في احكام السيطرة العسكرية على ما بات يعرف في المؤسسات الاستراتيجية والبحثية الاميركية بـ «الشرق الادنى الكبير»، والذي يسميه بريجنسكي «اوراسيا». وهي المنطقة الشاملة لشمال افريقيا والشرق الاوسط وآسيا الوسطى والقوقاز وشبه القارة الهندية.

وفي هذه المنطقة الواسعة والممتدة، فان اكثرية الشعوب والدول ليست خارج النفوذ الاميركي مثلها مثل بقية العالم. فمن لم يخضع لذلك النفوذ عسكريا فعل ذلك ثقافيا، ومن حاول ان يتحصن منه سياسيا فانه انزلق اليه اقتصاديا... فالمسألة اذن لم تعد الخضوع للنفوذ الاميركي لانه في واقع الحال حاصل فعلا بشكل او بآخر. ولكنها متعلقة بالخضوع المباشر للسطوة العسكرية الاميركية. والمفاتيح لتوسيع هذه السطوة اتخذت عنوانا كبيرا هو «الحرب على الارهاب» لتردفه عناوين اصغر مثل «محور الشر» و«الحرب الوقائية» و«نزع اسلحة الدمار الشامل» و«تجفيف مستنقعات الديكتاتورية»، وفي الجعبة الاميركية على الارجح عناوين اضافية سنسمعها مستقبلا تصلح ان تصير مفاتيح للتدخل وبسط الهيمنة العسكرية.

واذا كانت الحرب على افغانستان قد سمحت باحتضان دول آسيا الوسطى للوجود العسكري الاميركي، فان ديمومة هذا الوجود واستمراريته تحتاج الى مرساة عسكرية تشكل ظهير وعمق استراتيجي له. والمنطقة المرشحة لهذه الوظيفة - حسب الخبير الاستراتيجي انتوني كوردسمان - هي المنطقة العربية بالاضافة الى تركيا وايران واسرائيل. واسباب ترشيح هذه المنطقة لا ينبع فقط من متطلبات جيبولوتيكية وانما ايضا لضرورات جيو ستراتيجية واقتصادية وامنية. فهذه المنطقة لم تضعف وظيفتها بعد الحرب الباردة، وانما ما تزال تحتفظ بوجود منطقة «قلب القلب» فيما يتعلق بالاحكام على السيادة العالمية.

اكثر من ذلك، ان هناك اسبابا مضافة تستوجب اعطاء هذه المنطقة الاولوية الاولى في توجيهات اميركا للمرحلة اللاحقة لما بعد افغانستان. فالمنطقة وان كانت ترفرف على معظم اجزائها المظلة الاميركية، الا انها في الوقت ذاته تشكل في الادراك الاستراتيجي الاميركي منبعا للاصولية الاسلامية. فشبكة «القاعدة» استطاعت ان تنمو وتعزز باستفادتها من هبات العائلات الغنية في الخليج - حسب مارتن اندك - وفضلا عن ذلك وكما يضيف... فان الشبكة التي اسسها «اسامة بن لادن» وشريكه «ايمن الظواهري» كانت تعمل بالاساس لاسقاط الانظمة التقليدية في المنطقة، الا ان الدعم الاميركي لهذه الحكومات كان كفيلا بجعلها اهدافا صلبة، لذا اتخذت «القاعدة» «قرارا استراتيجيا بضرب راعي تلك الانظمة» اي الولايات المتحدة. اكثر من ذلك، يرى الادراك الجماعي الاميركي ان هذه المنطقة عصية على انتشار المد الديمقراطي العالمي الذي ساد ارجاء مختلفة من العالم عدا هذه المنطقة، وكان ذلك سببا حال من دون صنع السلام فيها واستمرار اجوآء العنف وتصاعده فيها. ولذا فان المرحلة اللاحقة تتطلب من واشنطن بعد القضاء على «الحركات الارهابية» - وهي تشمل وفق المنطق الاميركي كل حركات المقاومة للاحتلال الاسرائيلي - وانتهاء التعامل مع الدول المارقة (الداعمة للارهاب) - وقائمتها حسب التصنيفات الاميركية تشمل العراق وسورية وليبيا وايران - ان تنصب الجهود الاميركية نحو المساهمة في تغيير النظم السياسية التقليدية للدول العربية المتحالفة مع اميركا، حتى لا يتكرر الخطأ الذي ارتكبته الولايات المتحدة بدعمها للشاه لخوفها من بديل معاد، وفي النهاية جاء البديل الذي اطاح بالشاه وكان اسوأ بكثير، اذ ان الدعم الاميركي للشاه ساهم في تغذية مشاعر العداء لاميركا داخل الثورة الايرانية.

ولعل عودة الى وثيقة «بوش حول» استراتيجية الولايات المتحدة للامن القومي التي نشرت نصها الكامل الصحافة الاميركية في 20 سبتمبر/ ايلول الماضي تكشف بوضوح التوجه الاميركي الجديد، ووفق العبارات التي ساقها اول رئيس اميركي في القرن الحادي والعشرين، فان المهمة العاجلة للقوة العظمي الوحيدة تدور حول:

1- القضاء على الاعداء الذين يتطلعون للعالم كساحة حرب، الامر الذي يستوجب التحرك بشكل وقائي وسريع ضد التهديدات النووية والبيولوجية والكيماوية.

2- تغيير الانظمة في دول تمثل محور شر للعالم الحر مثل «العراق وايران وكوريا الشمالية».

3- نشر الديمقراطية والليبرالية تحديدا في العالم الاسلامي.

والمؤكد ان بوش في رؤاه لاستراتيجية الولايات المتحدة للامن القومي انما يعبر عن رؤية اليمين الاميركي الاكثر تطرفا في الساحة السياسية الاميركية، والذي اضحى متحكما بمفاصل السياسة والجيش والاقتصاد في اميركا... وهذا اليمين سبق ان عبر عن رؤيته لجعل القرن الحادي والعشرين قرنا اميركيا في دراسة معروفة ومنشورة تحت عنوان «اعادة بناء الدفاعات الاميركية» وذلك في سبتمبر/ايلول العام 2000 اي قبل عام من حوادث نيويورك وواشنطن. هذه الدراسة تنطلق من التأكيد على ان الولايات المتحدة هي القوى العظمى العالمية الوحيدة، اعتمادا على تفوقها العسكري ودورها التكنولوجي الريادي وكونها اكبر قوة اقتصادية في العالم. واهداف الاستراتيجية الاميركية حسب الدراسة هي: «الحفاظ على مكانة الصدارة الاميركية لاطول امد ممكن. هناك دول ذات قدرات عالية ولكنها غير راضية عن الوضع الراهن وتسعى إلى تغييره بشكل يهدد حال السلام والازدهار والحرية التي يتمتع بها العالم اليوم». واذا ارادت اميركا الحفاظ على دورها العالمي هذا، فعليها ان تعتمد على «تفوقها العسكري».

وتحدد الدراسة اربع مهام رئيسية للجيش الاميركي، هي: الدفاع عن الوطن الاميركي،حسم المعارك العسكرية في ساحات متعددة وفي آن واحد، اداء مهام شرطية، وتشكيل البيئة الامنية في مناطق النزاع المختلفة، تحديث الجيش الاميركي واستغلال الثورة التكنولوجية في الشئون العسكرية.

والواضح من هذه الدراسة ومن وثيقة بوش ان الادارة الاميركية الحالية عازمة على خوض الحرب الدائمة والمستمرة من اجل اخصاع العالم باسره لسطوتها العسكرية، والمطلوب من العالم ان يلائم نفسه مع اميركا وليس العكس.

ويبدو ان تلمس الكثير من القيادات الغربية والدولية لهذا المدركات الاميركية، وحجم وابعاد الكارثة التي تريد اميركا ان تسوق العالم اليها، جعل هذه القيادات تعلن رفضها القاطع لمشاركة اميركا في حربها على ما تسميه الارهاب في المرحلة اللاحقة لافغانستان او ما بات تسميه اميركا الحرب الوقائية ضد الاخطار المحتملة. فقد بدا واضحا ان اميركا عازمة على خوض حرب طويلة جدا تعيد الهندسة السياسية للعالم بما يتلاءم وتوجهاتها، وهي تتصرف تحت وطأة قناعة ان الحل لامراض العالم يكمن في الهيمنة العسكرية الاميركية عليه، وهذه القناعة اتضحت اكثر من خلال المبررات التي سيقت لرفع موازنة الدفاع التي اعلنها الرئيس بوش التي وصفت بانها الاعلى منذ ربع قرن. كما برزت من خلال التعامل مع الحلفاء في اطار الحملة على نظام طالبان، اذ اتسم ذلك التعامل لا بالصيغة التي يتعامل بها الشركاء عادة في تحالفات من هذا النوع، وانما بصيغة الاوامر، حتى ان مسئولا المانيا يقول: ان الشعور الذي ساد معظم اعضاء التحالف الاوروبيين ان اميركا ارادت منهم الاضطلاع بوظيفة «خادمة البيت» ثم جاءت تصريحات الرئيس الاميركي جورج بوش الابن التي قال فيها: «انه سيحتفظ بخياراته العسكرية سرية في مواجهة مرحلةما بعد افغانستان» وتأكيدات المسئولين في ادارته من ان بلادهم ستذهب لوحدها في ضرب العراق وانجاز مهمة تغيير نظامه السياسي، بعد ان سمعت من حلفائها معارضتهم لاستهداف العراق، بل وتشديد هؤلاء المسئولين من ان شن الحرب على العراق سيحصل سواء سمح او لم يسمح بعودة المفتشين الدوليين. اقول ان هذه التصريحات جاءت لتعزز هواجس القيادات الغربية لما باتت تشي به من تفرد اميركي وطغيان للنزعة الحربية لديها، والرغبة في السيادة العالمية وعلى حساب الشركاء والحلفاء. ولعل ما اثار حفيظة الاوربيين بشكل خاص ودعا بعضهم لمطالبة الاتحاد الاوربي في الانغماس بقضايا المنطقة العربية، هو انه صار يرى في المنهج الاميركي الى حد التطابق مع حكومة شارون. ولما كان الاوربيون يدركون ان امنهم مرتبط بالامن والاستقرار في جنوب وشرق المتوسط، فانهم صاروا يكثرون الانتقادات اللاذعة لنزعة اميركا الحربية. وكانت هذه الانتقادات موضع انزعاج اميركا الى حد مطالبة وزير خارجيتها بالكف عن هذه الانتقادات واحترام زعامة اميركا للعالم.

ويبقى السؤال: هل تستطيع اوروبا او الصين او روسيا مجتمعة اومنفردة ان تكبح هذا النزوع للسطوة العسكرية؟ المؤكد لمواقف هذه الدول - خصوصا اذا كانت مقترنة بالاجماع والثبات - تأثير كبير في تهذيب ذلك النزوع، غير انها ليس بالضرورة تكون كابحة لجهة ان التفوق الاميركي شمولي والغلبة العسكرية فيه طاغية الى الحد الذي يجعل الاميركيين يشعرون بعدم الحاجة الى شركاء. وهذا ما يستوجب طرح سؤال: ما العمل؟

المحفز الرئيسي لطغيان السطوة العسكرية الاميركية يكمن في سيولة المواقف الاقليمية وغياب موقف صلب ومؤثر لشعوبها... فاميركا تصوغ سياستها الشرق اوسطية والعربية على فرضية ان القيادات في المنطقة تعيش في لحظة «انعدام الخيارات» وبالتالي فانها وان اعلنت رفضها لمواقف اميركية معينة، فانها لا تتمكن من مواجهتها اذا ما اختارت اميركا ان تحول مواقفها الى ارادة فعل. وهذا ما جعل نائب الرئيس الاميركي يؤكد «ان موقف الدول المعترضة على شن الحرب على العراق ستتغير مواقفها عندما تشرع اميركا بالحرب» فهل هذه الفرضية صحيحة؟ واذا كانت كذلك فان هذا الواقع يلقي على عاتق شعوب المنطقة مسئولية كبيرة ولكن هل الشعوب تملك القدرة على الفعل، في وقت يبدو فيه الشارع العربي في مرحلة سكوت ذهبي؟

العدد 54 - الثلثاء 29 أكتوبر 2002م الموافق 22 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً