العدد 54 - الثلثاء 29 أكتوبر 2002م الموافق 22 شعبان 1423هـ

القوة للتداول

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

غدا يتوجه الناخب البحريني لاختيار نائب دائرته. فالاختيار اختزل إلى حده الأدنى وانتقل الاستقطاب العام في الجولة الأولى إلى استقطاب خاص ومحدد في الثانية. فالمعركة لم تعد على الفكرة بل الشخص. فالديمقراطية في التطبيق الواقعي هي «شخصنة» الاختيار وتحويل المثال العام إلى ورقة صغيرة توضع في صندوق الاقتراع.

هذا التصرف البسيط هو في النهاية فكرة «عبقرية» توصلت إليها أوروبا في القرن الثاني عشر الميلادي وجاءت كأسلوب «حل وسط» لحل الخلافات التي كانت تهبُّ بين أمراء الممالك.

نقل هذه الفكرة إلى أوروبا سكان المناطق الشمالية من القارة حين اجتاحت قبائل الفايكنغ مختلف المناطق واستولت على قلب القارة وشرقها وغربها وحاولت الوصول إلى جنوبها فاصطدمت بحضارات عريقة في قدمها تسيطر تقليديا على البحر المتوسط. توقفت جحافل الفايكنغ عند تلك الحدود وفشلت تحديدا في اختراق أطراف الدول المسلمة الواقعة في شمال إفريقيا والأندلس (أسبانيا).

المسلمون آنذاك (في القرنين العاشر والحادي عشر) كانوا القوة الأولى في العالم وكانت الخلافة تمتد من مركزها في بغداد وتنبسط إلى الأطراف شرقا إلى حدود الصين وغربا إلى اسبانيا.

توقف اجتياح الفايكنغ عند حدود الدول المسلمة، وحين حاولوا التقدم باتجاه الأندلس انهزموا هزيمة منكرة. ويقال إن أسطول الفايكنغ المؤلف من 25 سفينة دمر باستثناء واحدة. ولم يكرر الفايكنغ المحاولة مرة أخرى.

انتهت مغامرة جحافل الفايكنغ عند حدود الدول المسلمة وأطرافها واستقرت تلك القبائل الشمالية في مناطق سيطرتها تعيد تنظيم دولها وتجارتها. وأهم تأثيرات تلك القبائل على أوروبا كانت فكرة الاقتراع لاختيار الشخص المناسب. آنذاك كانت ممالك القارة تتقاتل داخليا وتتناحر بين بعضها والأقوى هو الغالب والمنتصر يسحق خصومه أو يستخدمهم في حقول العمل الشاقة.

الفايكنغ قلبوا المعادلة ونقلوا معهم عادات شمالية (مناطق اسكندنافيا) إلى مختلف أطراف القارة. لم يكن عند تلك القبائل المتخلفة الشيء الكثير لتعطيه إلى تلك الشعوب والمناطق الأوروبية.

أوروبا على تخلفها وظلاميتها كانت أكثر تقدما من الفايكنغ. إلا أن القبائل الشمالية كانت أرقى تنظيميا وأقدر على استخدام الأنهار للتجارة الداخلية.

أوروبا كانت قوية في تجارة البحار وكانت سفنها ضخمة وغير صالحة للاستخدام في الأنهار. الفايكنغ (رجال القوارب) قلبوا المعادلة فأوقفوا تجارة البحار وانتقلوا إلى التجارة النهرية وأقاموا اتصالات تجارية قوية مع بغداد والكثير من المدن الإسلامية من آسيا إلى أوروبا الغربية.

إلا أن رجال القوارب (الفايكنغ) أحدثوا من دون إدراك من أهم انقلاب في تاريخ أوروبا. فأوروبا بعد نهاية عصر الفايكنغ لن تعود كما كانت من قبل. أخذت أوروبا عن هذه القبائل الشمالية المتخلفة بدعهم الحسنة. الأولى هي تنظيم التجارة الداخلية واستخدام القوارب في الاتصالات النهرية. فأوروبا بفضل الفايكنغ أصبحت قريبة لبعضها بعضا وتحولت الأنهار التي تخترقها من حدود تفصل بين الممالك إلى وسائل للنقل والاتصال والمواصلات. وأحدثت التجارة الأوروبية الداخلية سلسلة تحولات اقتصادية فربطت المدن بطرق مواصلات اعتمدت القوارب النهرية وسيلة أساسية للاتصالات على مختلف الجهات.

إلى تنظيم المواصلات والاتصالات والنقل والتجارة، حصل في أوروبا التحول الكبير، وهو الأهم في تاريخها، وهو اللجوء إلى صناديق الاقتراع لاختيار الأمير أو البديل أو الحاكم أو المسئول. فالأكثرية تكسب بالاقتراع وليس بالسيف. والأقلية لا تسحق وتشغل في حقول الإنتاج الشاقة بل لها قيمتها الاعتبارية وقوتها الخاصة في التوازن الداخلي.

رحل الفايكنغ أو انقرضت فترتهم إلا أن تلك «القبائل المتوحشة» تركت أهم البصمات في تاريخ أوروبا. فبعدها ستعتمد ممالك أوروبا وسائلهم في الاتصال والاختيار.

يتوجه غدا الناخب البحريني إلى صناديق الاقتراع. وهذه الحركة على بساطتها هي من أعقد التنظيمات التي توصل إليها الإنسان عبر تجربته السياسية المريرة والطويلة. فهي تهذب العلاقات وتحيلها من اختبار القوة إلى اختيار خاص تقرره في النهاية عملية فرز الأصوات. فالقوة الآن هي للتداول

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 54 - الثلثاء 29 أكتوبر 2002م الموافق 22 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً