إذا كان المجتمع الدولي قد اتّجه في القرنين الماضيين لإلغاء العبودية، فإن ثمّة أشكالاً جديدة أخذت بالظهور ترافقاً مع موجة التعصّب والتطرّف والإرهاب، التي ضربت العالم في العقود الثلاثة الماضية، والتي اتّخذت شكلاً تكفيرياً وتدميرياً، بل وإبادياً في السنوات الأخيرة، لا سيّما بعد ظهور تنظيم «القاعدة»، وربيبه تنظيم «داعش» في العراق والشام.
وفي ظلّ العولمة، وبفعل التطوّر العلمي والتقني، خصوصاً في تكنولوجيا الإعلام، والمعلومات والاتصال والمواصلات والطفرة الرقمية «الديجيتيل»، فإن ظاهرة العبودية بشكلها القديم التي أخذ العالم كلّه يتبرأ منها، ويسنّ القوانين لمكافحتها، بدأت بالظهور عبر أشكال جديدة، مثل الاتجار بالبشر، وتجارة المخدّرات، وتجارة السلاح، وتبييض الأموال، والاتجار بالأعضاء البشرية، أو غيرها من أنواع التجارة التي تلحق ضرراً بليغاً بالإنسان وكرامته وآدميته.
وإذا كانت العبودية بشكلها القديم مظهراً مستهجناً في عالمنا المعاصر، لدرجة أنه كاد ينقرض، فإن ظهورها بحلّة جديدة ليس فقط أمراً لا أخلاقياً ولا إنسانياً فحسب، بل إن ضرره وخطره على المجتمع ككلّ، أصبحا أشدّ بأساً بما لا يقاس، فضلاً عن أنه جريمة دولية بحق الإنسانية، خصوصاً حين يتعلّق الموضوع باستعباد فئات، أو مجاميع بشرية، أو أشخاص من خلال قيود وإجراءات من شأنها التحكّم فيهم، وإخضاعهم لظروف وأوضاع تكاد تقترب من سلب حريّتهم، بتوظيفهم واستغلالهم بما يعود بالنفع المادي على الجهات التي تستخدمهم.
لعلّ مناسبة هذا الحديث، هو ندوة مهمّة نظّمها مركز جامعة الدول العربية في تونس، بمناسبة مرور 170 عاماً على إصدار أمر المشير أحمد باي يقضي بـ»إلغاء الرّق وعتق العبيد» وذلك في العام 1846. وإذا كان هذا القرار المتقدّم يأتي من دولة صغيرة قياساً بجيرانها من جنوب وشمال البحر المتوسط، إلاّ أنها كبيرة بما قدّمته للبشرية في السابق والحاضر بريادتها وحجم تأثيرها.
والشيء بالشيء يُذكر - كما يُقال - فإن تونس بعد ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011، أصدرت قانوناً جديداً يقضي بـ«منع الاتجار بالبشر ومكافحته»، في 3 أغسطس/ آب 2016، بهدف منع جميع أشكال الاستغلال التي يمكن أن يتعرّض لها الأشخاص، وخاصة النساء والأطفال، ومكافحتها بالوقاية من الاتجار بهم، وردع مرتكبيه وحماية ضحاياه ومساعدتهم.
إن أشكال العبودية الجديدة التي يواجهها العالم تحتاج إلى بحث معمّق للظاهرة من جوانبها المختلفة، التاريخية والقانونية والفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية وغيرها، حيث لا يزال هناك نحو 45 مليون إنسان تشملهم ظاهرة الاتجار بالبشر، وتبلغ قيمة هذه التجارة نحو 150 مليار دولار. وقد ساهمت الحروب والنزاعات الأهلية، إضافةً إلى ظواهر الإرهاب والعنف والهجرات والنزوح، وتمزّق الروابط الاجتماعية والعائلية، في تعريض الملايين من النساء والأطفال للإبتزاز والاغتصاب وتجارة الجنس والمخدّرات وتبييض الأموال وتجارة السلاح وغيرها، وجميعها تشكّل انتهاكات سافرة لحقوق الإنسان وكرامته.
وقد أقدم «داعش» على عمليات استرقاق جديدة، وعبودية مستحدثة، ولاسيّما ازاء أتباع الأديان الأخرى، من المسيحيين والايزيديين والصابئة المندائيين، حين اشترط عليهم الدخول في الإسلام على طريقته، أو بدفع الجزية أو الرحيل، وإلاّ فإن القبور ستنتظر الرجال، ويكون مصير النساء السبي والبيع في سوق النخاسة، وهو ما حصل لمئات النساء الايزيديات بعد احتلال «داعش» للموصل في 10 يونيو/ حزيران 2014.
وكانت الندوة قد سلّطت الضوء على موضوع التعامل مع الرق والعبيد في الحضارة العربية - الإسلامية، وعلى رغم عدم وجود نص تحريمي في ذلك الزمان، إلاّ أن الإسلام دعا منذ وقت مبكر إلى «معاملة الأسرى والعبيد معاملة حسنة والرفق بهم»، ونهى الرسول محمد (ص) عن تسميتهم بالعبيد، خصوصاً أن الإسلام ساوى بين البشر في الكرامة الإنسانية، وكان النبي محمد (ص) يشجّع على عتقهم، وبهذه المناسبة نستذكر الفاروق عمر بن الخطّاب الذي قال: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، وهو نصّ ورد ما يشابهه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 والذي جاء في مادته الأولى: «يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق».
وبالتدرّج، وبحكم قوانين التطوّر وتوقيع الكثير من البلدان العربية على الاتفاقات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، فإن دساتيرها وقوانينها أخذت تنحو منحى تحريم تجارة العبيد، بل والمساءلة على من يقوم بها، وقد يكون مناسباً ليس فقط التوقيع على الاتفاقيات الدولية ذات الصلة في هذا المجال، بل تغليظ العقوبات لمن يرتكب جريمة الاتجار بالبشر بمختلف أشكالها وفروعها.
وإذا كانت العبودية بشكلها القديم قد انتهت ولم يعد لها وجود في عالمنا، فإن الأشكال الجديدة من الاستعباد تشكّل خطراً حقيقياً على الإنسانية جمعاء، وهي تمثّل انتهاكاً صارخاً لقواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، وللاتفاقيات والمعاهدات الدولية وللشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ولا بدّ من التعاون على المستوى الدولي لوضع حدٍّ لهذه الظاهرة المشينة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"العدد 5257 - الجمعة 27 يناير 2017م الموافق 29 ربيع الثاني 1438هـ
العبودية الجديدة انتشرت في منطقتنا بسبب البذخ في صرف الاموال على الاعلام المروّج لأفكار العبودية والخضوع
تطور الإسترقاق وصار بصورة حضارية مختلفة. صار الإسترقاق هالزمن بالبطائق الإئتمانية وغلاء الأسعار والأجارات وإستحالة القدرة على شراء منزل للمواطن المعدوم.