إن عملية تطوير القرى في البحرين أدت، بطبيعة الحال، إلى تقسيمها إلى قرى يوجد بينها فواصل واضحة، وهذا التقسيم، بالطبع، حديث ولا يعكس تقسيم القرى في الحقب القديمة، وبالتالي، فعندما نتطرق إلى آثار إسلامية تقع في حدود قرية معينة بحسب التقسيم الحالي، فهذا فقط لتحديد موقع الآثار. يذكر، أن هناك نظرية صاغها Salles يفترض فيها وجود امتداد آثاري للقرى في البحرين، أي أن القرى الحديثة قد بنيت فوق آثار القرى القديمة (Salles 1986). بمعنى، أن ما تم اكتشافه من آثار، تعتبر آثار جزئية وأن هناك آثاراً أخرى توجد تحت القرى الحالية، وبالتالي، يمكننا افتراض وجود تشابه محدود في تقسيم القرى قديماً وحديثاً.
في الواقع، إن عملية ترسيم حدود بين القرى ليست ذات أهمية في تحديد طريقة التوسع السكاني في هذه المناطق، بل إن وجود مثل هذه الحدود التقسيمية توهمنا، أحياناً، أن هناك فاصلاً بين المواقع الأثرية المتجاورة والتي يقع كل منها في قرية مختلفة. على سبيل المثال، يوجد مواقع أثرية متجاورة لكنها موزعة بين قريتي باربار وجنوسان، فهل هذه المواقع تمثل قرية واحدة نشأت في تلك الحقبة القديمة؟، أما أنها تمثل قريتين صغيرتين؟. يذكر، أن اللقى الأثرية في هذه المواقع بعضها يعود لنفس الفترة التاريخية، وأخرى تعود لفترات تاريخية لاحقة، وبذلك، فإن بعض المواقع تبدو أنها امتداد لمواقع أخرى، وبعضها تبدو أنها مكملة أو تمثل منطقة التوسع لمنطقة أخرى. بالطبع هناك احتمال أن تكون تلك المواقع منفصلة عن بعضها ولا يوجد ارتباط بينها، غير أن فرضية الامتداد الآثاري تبدو أكثر ترجيحاً، لأن هذه المناطق زراعية وتشجع على التوسع الاستيطاني، وقد كانت مأهولة بالسكان في الحقبة الهلنستية.
كذلك، من بين المواقع الأثرية التي تتوزع بين باربار وجنوسان، هناك مواقع لم يتم التنقيب فيها، على سبيل المثال، مسجد الخيس في باربار، وهو محاط بمواقع أثرية تم التنقيب فيها، وهي تعود لكلا الحقبتين الإسلاميتين المبكرة والمتوسطة. فهل ينتمي مسجد الخيس لهذه الفترات الزمنية؟.
مسجد الخيس
يقع مسجد الخيس في الطرف الشمالي الشرقي لقرية باربار، وكان يقع وسط النخيل، في موقع كان يعتبر في الماضي مظعناً، أي موقع سكن مؤقت. وقد عرف باسم مسجد الخيس بسبب موقعه بين النخيل المتداخلة، وهي المواقع التي تعرف عند العامة باسم الخيس، وهي لفظة وردت في المعاجم العربية، جاء في معجم تاج العروس «الخِيسُ بالكَسْر: الشَّجَرُ الكثيرُ المُلْتَفُّ». يذكر، أن مسجد الخيس يعتبر من المساجد القديمة في قرية باربار والذي لم يتبق منه إلا آثاره، هذا، وقد كشف تقرير التنقيب، الذي أعده جاسم العباس لإدارة الأوقاف الجعفرية، عن وجود أكثر من طبقة آثارية في المسجد، كما كشف التقرير عن وجود آثار لمسجد قديم في الطبقات الآثارية السفلى، وهو أصغر حجماً من آثار المسجد الذي تبدو آثاره في الطبقات العليا. أي أن البناء القديم للمسجد تعرض لأكثر من عملية ترميم تضمنت عمليات توسعة وإعادة بناء.
كما عثر في الموقع على العديد من قطع الفخار والتي، للأسف، لم يتم دراستها للتعرف على الفترات الزمنية للطبقات الآثارية. ومع غياب الدليل الآثاري، لا يمكن إلا أن نفترض فترة تقديرية للفترة التي تم فيها بناء المسجد الأول في موقع مسجد الخيس الحالي؛ حيث يمكننا أن نفترض أن البناء الأول للمسجد ربما شيد في الفترة الإسلامية المتوسطة (1055 - 1500م) بأقل تقدير، وذلك بحسب المواقع الأثرية المجاورة له والتي عثر فيها على لقى آثارية تعود لكلا الفترتين الإسلاميتين المبكرة والمتوسطة، والتي تمتد بين قريتي باربار وجنوسان. هذا، وقد سبق أن ذكرنا في الحلقة السابقة الموقع الإسلامي شمال معابد باربار الذي يبعد قرابة 800م عن هذا المسجد والذي يعود للفترة ما بين القرنين التاسع والخامس عشر الميلاديين. أما في جنوسان فيرجح وجود قرية إسلامية مبكرة.
القرية الإسلامية المبكرة في جنوسان
تم العثور على آثار تدل على وجود استيطان أو نشوء قرى وذلك في غرب قرية جنوسان؛ حيث تم تحديد ثلاثة مواقع أثرية أساسية، الأول ويقع أقصى شمال جنوسان، ويبعد قرابة 100 متر عن ساحل البحر، وهو عبارة عن تل به قبور تعود للحقبة الهلنستية، وقد نقبت فيه البعثة البريطانية في بداية السبعينيات وعثرت فيه على طبقات آثارية إسلامية، والتي عثر فيها على فخار يعود للحقبة الإسلامية المبكرة، وبداية الحقبة الإسلامية المتوسطة، كما عثرت البعثة البريطانية في هذه الطبقات على آثار تدل على بناء بيوت من جريد النخيل. هذا وقد استنتجت البعثة البريطانية أن الاستيطان في الفترة الإسلامية يعود للقرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين (McNicoll and Roaf n.d., p. 22 - 25). أي أنه يعود لفترة سيطرة القرامطة على جزيرة أوال (929م - 1064م).
أما الموقع الثاني في غرب جنوسان فيبعد قرابة 800 متر شمال الموقع السابق، وهو الموقع المعروف باسم تلال جنوسان والذي يوجد حالياً في مقبرة جنوسان. وقد نقبت البعثة الفرنسية في هذا الموقع. ومن اللقى الآثارية التي عثر عليها في هذا الموقع، قطع فخار تعود للقرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، وكذلك قطع فخار تعود لفترات لاحقة ربما القرن الرابع عشر الميلادي (Andre-Leicknam et Salles 1984, pp. 135 - 136). ربما كان كلا الموقعين السابقين يمثلان قرية صغيرة نشأت في هذا الموقع في الفترة ما بين القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، غير أننا لا نملك أدلة على ذلك.
يذكر، أن نتائج المسوحات الآثارية للبعثة البريطانية أشارت لوجود موقع أثري ما بين الموقعين السابقين، وقد عثر فيه على لقى آثارية تعود للفترة الإسلامية المتوسطة وما بعدها (Larsen 1983, appendix II). إلا أنه لم يتم التنقيب في هذا الموقع، فربما كانت هناك طبقات آثارية سفلى تعود للفترة ما بين القرنين العاشر والحادي عشر الإسلاميين. هذا، ويوجد في شرق جنوسان موقع أثري إسلامي رابع يعود للفترة الإسلامية المتوسطة سوف نتطرق له في الحلقة المقبلة.
الخلاصة، أن هناك عدداً من المواقع الآثارية الإسلامية تمتد بين قريتي باربار وجنوسان وتوجد ضمن دائرة نصف قطرها قرابة كيلومتر واحد ومركزها موقع معابد باربار. وكل هذه المواقع تعود للفترتين الإسلاميتين المبكرة والمتأخرة. ولا نعلم على وجه الدقة إذا كانت هذه المواقع تمثل قرية واحدة بدأت في الاتساع، أو أن القرى القديمة كانت صغيرة جداً وأن هذه الآثار تمثل آثاراً لأكثر من قرية قديمة.