منذ أن عاد الفنان اللبناني عبد القادري إلى العاصمة اللبنانية (بيروت) نهايات العام 2015، بعد تسعة أعوام قضاها في الكويت، ومنذ أن باغتته ذاكرته الأولى، التي تركها قبل مغادرته مدينته الأم، والتي تتمثل كما يصفها بعباراته في «رائحة أول المطر على الأسفلت في صباح شتائي» وفي «تسلق أغصان الياسمين والغاردينيا على جدران ومداخل البيوت الأرضية» وفي «انعكاسات أشعة الشمس على سفوح المدينة». مذّاك، وعلى رغم إلحاح صور الواقع العربي القاسي الذي ظل القادري مشغولاً بها لأكثر من عشرة أعوام، مترجماً إياها عبر معارضه التي ركزت على ثيمات اجتماعية سياسية، إلا أن الفنان اللبناني قرر تغيير وجهة أعماله الفنية، والانطلاق من زوايا كفيلة بأن تصنع من مآسي الواقع العربي وقسوته صوراً جديدة تشع بالأمل والحياة.
هكذا جاء معرضه الشخصي «أركاديا» المقام في «البارح للفنون» يوم الأحد (22 يناير/ كانون الثاني حتى 10 فبراير/شباط 2017)، تحت رعاية وكيل وزارة الداخلية لشئون الجنسية والجوازات والإقامة الشيخ راشد بن خليفة آل خليفة.
«أركاديا» الذي يتناول مأساة المهاجرين بحراً، الهاربين من جحيم بلدانهم إلى شواطئ أكثر أمنا وحياة، يعرض أعمالاً تمتلئ بالحياة على رغم الألم، وذلك في محاولة من الفنان لصنع صور مشرقة ولصياغة عالم جديد لنفسه ولشخوصه، ليرتاح ويحرر ذاكرته من صور الواقع القاسية التي تتّبعها طيلة أعوام، في جنة يصنعها هو في لوحاته فقط، يحرر فيها شخوصه، من قسوة ما شهدوه إن وصلوا، أو ليريح أرواح من لم يصل منهم. إنه معرض يصفه الفنان بأنه يمثل «فعل الوصول مجازياً» .... الوصول إلى «أركاديا».
فضاءات «الوسط» التقت الفنان عبد القادري على هامش معرضه، لتحاوره حول أركاديا، رمزية الاسم، ومجاز الوصول، وحول نظرته للفن، وحول الطبيعة التي أخذت بعض لوحاته للتصوُّف.
أركاديا/ الجنة... بيروت/ الحياة
سألته بداية عن عنوان معرضه المشتق من اسم المحافظة اليونانية «أركاديا»، عن رمزية الاسم والمدينة، وعن علاقتهما بثيمة المعرض، فأوضح قائلاً: «أركاديا محافظة يونانية يعود تاريخها إلى العصور القديمة، وربما لا توجد اليوم في مكانها الجغرافي السابق لكن هذه المنطقة معروفة في الأساطير اليونانية، بأنها أرض إله البراري «الإله بان». وفي فترة فنون عصر النهضة الأوروبية، احتفى مجموعة من فناني عصر النهضة بأركاديا كونها منطقة بكر وأهمهم الفنان بوسان، الذي قدم لوحة تحمل اسم أركاديا، وذلك احتفاء بهذه المنطقة باعتبارها أرض الميعاد التي لم تلوثها الحضارة، أو الأرض البكر التي لم تتشوه، والتي لم يتلوث سكانها بأي حضارة».
أما فكرة المعرض فبدأت كما يروي عبد القادري «بعمل كان يفترض أن يكون مكملاً لأعمال آخر معرض قدمته في بيروت وهو معرض (رماد البحر) (2016) الذي كان يتحدث عن غرق المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط».
ويضيف «قدمت عملاً كبيراً جداً حول هذه المأساة وكنت وقتها خارج بيروت، أتعبني المعرض كثيراً بسبب ما شاهدته من مآس، فحين تشتغل على موضوع بهذه القسوة وتسمع قصص الآخرين وتشاهدها على مقاطع اليوتيوب، وتصبح محاطاً بقصص الموت طوال الوقت، فهو أمر متعب». ولذا يشير عبد القادري «بعد هذه المرحلة توقفت عن الانشغال بالموت».
قرر القادري التوقف عن متابعة صور الموت، وهو الفنان المنشغل على الدوام بمتابعة الشأن العربي والإقليمي وبصراعاته الداخلية والخارجية وبكل صور العذاب والآلام فيه، والمترجم لكل ما تحمله ذاكرته حول ذلك الواقع عبر ثيمات معارضه الفنية التي تنوعت بين صور التعذيب في سجن أبوغريب (العام 2006) وصولاً إلى مأساة غرق المهاجرين وصور أشلائهم الملتقطة على السواحل اليونانية في «رماد البحر» (العام 2016). كان ذلك تأثير العودة إلى بيروت: المدينة الحياة.
هذا الانشغال المنهك لذهن وروح القادري، ثم عودته إلى بيروت ومباغتتها له بكل صور الحياة فيها، جعلاه يعزف عن متابعة أخبار الموت، عن قراءة الصحف وعن الاستماع لنشرات الأخبار، أخذاه إلى الطبيعة، وإلى شراء شقة أرضية وزراعة «محترف» وتشجيره.
هكذا أخذه المحترف بكل ألوان الطبيعة الجميلة فيه إلى الرسم مرة أخرى، والفعلان متشابهان على أية حال. وهكذا أعاد النظر في أعماله، وخصوصاً تلك التي تصور مأساة غرق المهاجرين قبالة السواحل اليونانية. ووقف متسائلاً مستفهماً عن علاقته بهذا الواقع القاسي، محاولاً إيجاد انطلاقة مختلفة لا تركّز على المأساة، بل تفتح باباً مختلفاً، لعله يكون صوفياً يقود إلى فكرة الوصول المجازي إلى أركادياً.
يقول القادري: «هذا المحيط الجديد من الطبيعة وفكرة انقطاعي كاملاً عن سماع الأخبار وعن مشاهدة صورة المأساة والتراجيديا، أخذاني لوجهة جديدة ولنقطة انطلاق مختلفة في تناولي للشأن العربي الاقليمي».
ماذا سأرسم؟
لم يتمكن القادري من فك ارتباطه ذاك بالثيمات الاجتماعية السياسية المسيطرة على ذهنه والموجهة لأعماله، كما لم يستطع العودة لصور الأشلاء الممزقة والموت والتعاسة، فماذا سيرسم إذن؟ يقول: «خلال هذه الفترة وحينما كنت أفكر كيف أعود للعمل على مشروع الهجرة، التقيت بشخص تحدث لي عن قصة اثنين من أقربائه كانا يحبان بعضهما، جازفا وغامرا بالهجرة إلى اليونان عبر البحر بحثاً عن حياة أفضل، ثم انقطعت أخبارهما. شاهدت صورة لهما معلقة على جدار منزله، رسمها فنان مجهول بالفحم. أثارني الموضوع كثيراً ودفعني لأن أتناول رمزية القصة وفكرة أنهما وصلا أم لم يصلا، وهي أبعد من فكرة المأساة بالنسبة لي وأبعد من فكرة الحياة والموت».
هكذا اختار عبد القادري شخوص أعمال معرضه الجديد، امرأة ورجل خالدان، ينشدان الخلاص من قسوة الواقع في «أركاديا» أرض الطهارة التي لم تلوثها أي حضارة وأي بشر.
يقول القادري: «بدلاً من أن أرسم هذين الحبيبين غارقين في بحر، جعلتهما في حالة فرح في لوحاتي. قررت أن يكون المعرض كله بهذا الشكل، وقررت أن أجعل هذين الحبيبين، مرسومين بالفحم، كما في صورتهما الأصلية التي شاهدتها وألهمتني، لكنني أوصلتهما في لوحاتي إلى اليونان وإلى أركاديا تحديداً».
القادري لم يبتعد كثيراً عن ثيماته المعتادة في هذا المعرض، ولم يخرج عن نطاق اهتمامه بالثيمات الاجتماعية السياسية، كل ما فعله هذا الفنان المتعب من صور الموت والدمار، في هذا المعرض هو أنه حاول أن يتصالح مع الواقع الحالي، ويخفف من قسوة صور هذا الواقع المر على نفسه وعلى المتلقي وعلى شخوص أعماله، وذلك في محاولة لإيجاد السلام وسط منطقة تمزقها الحروب والصراعات.
يقول: «أنا بنفس ثيمة معرضي السابق (رماد البحر)، لكني أتناولها هنا من منطلق مختلف كلياً، فحين اشتغلت على هذه الثيمة قبل ثلاثة أعوام، لم يكن كثير من الناس واعين لفداحة مأساة الهجرة، لكن الجميع شعر بها بعد انتشار صورة الطفل السوري الذي غرق على البحر. هذه الصورة التي هزت الملايين هي صورة قاسية وصعبة». ويواصل «في هذا المعرض قررت الخروج من فكرة معالجة القضية بشكل مباشر. تناولتها من زاوية الحبيبين اللذين لا أعرف شيئاً عن مصيرهما، لا أعلم إن كانا قد وصلا وحققا حلمها أم ابتلعتهما مياه البحر. لذا قررت أن أذهب إلى جانب مختلف كلياً وأن أحاول عبر لوحاتي تحقيق حلمهما بالوصول، ليصبح المعرض كله تحقيق حلم ولو بشكل مجازي لفكرة الوصول أو العبور أو ربما الحياة بعد الموت».
الوصول... فعل مجازي
يأخذني القادري في جوله عبر معرضه الذي افتتحه بعبارة الشاعر دانتي الشهيرة «الطريق الى الجنة يبدأ بالجحيم»، ليطالعنا بعدها عمل تركيبي Installation يقدم فيه الفنان الصورة الأصلية للزوجين وهي التي ألهمت أعمال معرضه، مخبأة خلف زجاج، فيما تسلط إضاءة علوية على مفردات قال القادري إنها مأخوذة من قاموس الملاحة وإنها تعبر عن كل ما له علاقة بالبحر والملاحة، مشيراً إلى أنه «لكي يسافر الشخص بسلام عبر البحر ينبغي أن تكون لديه معرفه بأسرار وقاموس ومعجم البحر».
بعدها تبدأ لوحات المعرض التي قسمها القادري في مجموعات تصور كل مجموعة طوراً حياتياً مختلفاً لما يريد لشخوصه أن تعيشه في أرض أركاديا الموعودة، ويوضح ذلك قائلاً: «في أول مجموعات المعرض وهي مجموعة (الخلاص) تصور اللوحات أزواجاً مختلفين يشبهون أولئك الحبيبين اللذين ألهماني، وقد لا يشبهونهما، لكن هؤلاء الأزواج جميعاً يلبسون لباساً رسمياً وكأنهم يحضرون مناسبة اجتماعية. رسمت صورهم على الفلين لأن الفلين لا يغرق، وأنا لا أريد أن يغرقوا، أريدهم أن يصلوا إلى أركادياً».
ويضيف أن «خلفيات هذه اللوحات هي عبارة عن موتيفات من أرضيات المنازل المستخدمة في سورية وفلسطين ولبنان، قمت بحفرها بالليزر على الفلين».
تضم المجموعة الثانية لوحة واحدة تصور وصول الأزواج بسلام إلى شاطئ الأمان وهم يرتدون سترة النجاة، ثم تبدأ المجموعة الثالثة التي يمنح فيها القادري شخوصه حياة جديدة، إذ تنمو النباتات على أجسادهم ثم تتسلق أكتافهم. ثم تأتي مجموعة «الوحدة» التي تتصالح فيها الشخوص مع البحر، ليصل أخيراً إلى المجموعة التي تتوحد فيها شخوصه مع الطبيعة حولها، وعن هذا التوحد يقول: «هناك نظرة صوفية في هذه الأعمال، محورها أن الإنسان والطبيعة واحد، فنحن نخلق من الطبيعة ثم نرجع إليها ولذلك أحببت أن أعطي الزوجين والمحيط حولهما في كل لوحة نفس التركيبة الكيمائية واللونية».
أوْمن بالفن الملتزم
على رغم الوصول والتوحد مع الطبيعة والتصالح مع البحر، لا تزال لوحات القادري تمتلئ بالغربة والوجع، أسأله عن ذلك فيجيب مؤكداً «بالطبع، لأنني أتعامل مع شخصيات تشغل بالي وأتساءل عن مصيرها على الدوام، لكنني وبقدر ما كنت أحاول أن أرتاح، قبل أن أريح شخوص لوحاتي، إلا أنني لم أتمكن من أن ألغي فكرة أننا نعيش مأساة حقيقية في الوطن العربي، وجميعنا مطالبون بأن يكون لدينا حد الأدنى من الوعي الاجتماعي والسياسي».
هذا الوعي بالشأن السياسي والاجتماعي يؤكد القادري على أهميته منذ أن بدأ مسيرته الفنية في أعمال قدمها في العام 2006 وضمت مجموعة كبيرة من اللوحات والجداريات عن سجن أبو غريب مؤكدا" أنه ينطلق أولا من الحالة الإنسانية التي ترتبط حتما" بالواقع الاجتماعي او السياسي الذي تعيشه شعوب المنطقة العربية. لكنه يعود ويشير إلى أن ذلك لا يلغي حتماً دور الفن كوسيط جمالي قادر على إغناء وتحريك الجانب الشعوري عند المشاهد وليس الجانب الفكري البحت.
صور تعكس قناعات الفنان في شكل لوحات من الذاكرة،
ويبدو أن اللوحات عبارة عن شهود زمنية تحاكي قسوة الواقع
حيث يكون لها تأثيرها الخاص..
شكراً للكاتبه..