العدد 5257 - الجمعة 27 يناير 2017م الموافق 29 ربيع الثاني 1438هـ

قصة قصيرة... خيوط مستوية

أمام هذه الأمواج المتلاطمة، وقف كمن يرى البحر للمرة الأولى، فالمنظر عميق عمق مأساته، على امتداد البصر مراكب الصيد وسفن الأعالي تمخر عباب المحيط، ومصطافون يسابقون أيام الصيف الأخيرة متجاهلين لهذا الواقف بينهم. 

شرد بين ماضٍ ولّى وحاضر معتم، تغلغل وجدانه المتلازمات الثلاث ضجر وكأبة وملل، فأصدقائه منهم من هاجر ومنهم من سافر ومنهم من تبدل وتغيّر، أمّا هو منذ أن ترك قريته صار يجاري أيامه دون معرفة وجهته أو ما العمل.

يمضي دون اكتراث للأجسام المتصارعة، ولا القهقهات المتعالية والتي تصدح بالمكان... تقدم نحو الحشد كرضيع يتلكأ في المسير، مشتت التفكير.

لم يعد إلى واقعه إلا على نداء: أحمد. أحمد التفت إلى هذا الصوت الغريب فلمح رجلاً نحيف البنية، يدنو من عقده الثالث، طابعه البدوي لا يكاد يفارقه رغم تماشيه مع أزياء المدينة، ذو وجه مستدير يضع قبعة الخيط في عز هذا الأُوار، ذعر ذعراً شديداً، كان قد وقف يحدق إليه بتمعن من بعيد، تصنم بتساؤله من هذا وماذا يريد؟ بعد برهة تفكير وكمن تضطره قوة أن يستيقظ من غفوة جرى ليعانق هذا الغريب الذي لم يره مند أمد بعيد. 

فلم يكن سوى شعيب ـ ابن قريته. 
- السلام عليكم
- وعليكم السلام، ما الذي أتى بك إلى هذه المدينة الغول؟ 
أحس شعيب بالضيق قبل أن يشتم ويلعن فقره، ليبادر بالجواب الجفاف استأنس بالقرية ماتت الماشية وقل الزرع، جف الضرع، سئمت الفقر وسأركب المغامرة للضفة الأخرى، داومت على الحرث وتربية المواشي ولا أريد أن أقبر في هذا.
جحظت عينا أحمد في موقف ينم عن الدهشة كان يعتقد أن التظاهر بالغباء في موقف كهذا يمكن أن يظهر له ما يخفي محدثه. 

أما هو فليس بأحسن حال قد عانى الويلات فمند مغادرته القرية لم يعرف الاستقرار طريقاً إليه فبدوره كان يتمنى أن تسنح الفرصة ويركب القارب ويصل إلى شط الأمان وأن يأتي صيفاً متمختراً في سيارته. 

في المساء صارع في اضطراب شديد توجسات قضّت مضجعه... رجل مقدر في القرية كلها، الكل يتمنى قدومك، الأطفال ينتظرون هداياهم، أعيان القرية يذكرونك في مجالسهم، فارس أحلام بنات القرية، لكن أين أنت من هذا؟ الناس يحترمونك لأنك ابن كبار الشيوخ... قدرك، أنت لم تنجز شيئاً التحقت بالجامعة، فمالت بك النفس وشغلتك أندية المدينة على التحصيل، خذلتك المدينة وأدارت ظهرها عنك. 

وما إن تسللت خيوط الشمس الأولى عبر الستائر، حتى استجمع همته كجندي لا يلهيه عن الواجب أمر، قاصداً أول حافلة متجهة إلى القرية في ذلك الصباح، عازماً على استصلاح الأرض وحفر بئر وتنقية القن والخم والبيدر. 





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً