محيّر أمر الصين وملغز. أو هكذا يبدو في نظر الكثير من المراقبين. فالبلد ذاك كان حريا به، أو كان متوقعا منه أن يكون بين الأرفع صوتا والأمضى فعلا في مواجهة انفراد الولايات المتحدة بالقرار الدولي، بالذريعة العراقية أو بأية ذريعة سواها. ولبكين من الأسباب الموضوعية ما من شأنه أن يجعلها الأكثر تخوفا حيال تلك الوجهة الأحادية الأميركية. إذ ماذا، مثلا، لو استنسخت الولايات المتحدة سياستها الحالية حيال العراق، لتطبقها مستقبلا حيال كوريا الشمالية، وهي أيضا، رسميا، في عداد بلدان «محور الشر»، وتتهم بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، بل تمتلكها فعلا، وهي إلى كل ذلك، بلد تربطه بالصين وشائج الجوار الجغرافي والاستراتيجي... على أقل تقدير؟ هذا ناهيك عن إشكالات أخرى كثيرة، تؤزم العلاقات الصينية ـ الأميركية أو يفترض فيها أنها تؤزمها، لعل أبرزها، على الإطلاق، مشكلة تايوان، تلك الجزيرة التي تعتبرها الصين جزءا من ترابها الوطني لا يتجزأ، ولا تنفك تؤكد عزمها على استردادها بكل الوسائل، ولكنها لا تستطيع، لأن الولايات المتحدة قد بسطت على تلك الجزيرة حمايتها، ومدتها بأسباب المناعة.
لكل تلك العوامل وسواها، كان يفترض في بكين أن تكون أحد رافعي لواء الاعتراض على الولايات المتحدة في هذا الجدل الدولي الدائر حاليا حول الحرب على العراق، وزعم واشنطن لنفسها حق الانفراد بشنها. ثم إن الصين قوة صاعدة، والبلد الوحيد من بلدان العالم الثالث، أو من البلدان السائرة في طريق النمو، الذي يتمتع بمقعد دائم في مجلس الأمن وبحق الفيتو، وكان يمكن للأزمة الراهنة بشأن العراق أن تمكنها من فرصة تأكيد الذات على الصعيد الدولي، أي من ذلك الدور الذي كثيرا ما قيل إنها تتعطش إلى الاضطلاع به. غير أن بكين لم تفعل ذلك. صحيح أنها أعلنت أنها تعارض أي تحرك ضد العراق لا يصدّق عليه مجلس الأمن، ولا يكون بتفويض منه، لكن الموقف ذاك جاء أقرب إلى الإعلان المبدئي ولم يترجم إلى فعل سياسي ودبلوماسي ملموس. فذلك ما تخلت عنه الصين أو أنفته، فتولته فرنسا بالدرجة الأولى، وكذلك روسيا. علما بأن الأولى بلد غربي، حليف للولايات المتحدة، وعوامل الاختلاف والخلاف بينها وبين هذه الأخيرة، أقل، بالتأكيد وبما لا يقاس، مما هي عليه الحال بالنسبة إلى الصين، وعلما بأن الثانية، أي روسيا، قد بلغت، في عهد رئيسها الحالي فلاديمير بوتين وفي أعقاب اعتداء الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، بعلاقاتها مع الولايات المتحدة درجة من الوثوق غير مسبوقة في التاريخ، تكاد أن ترقى إلى مرتبة التحالف، ناهيك عن أن روسيا، تلك التي لايزال اقتصادها في الأطوار الأولى والهشة لتعافيه، في أمسّ الحاجة إلى دعم واشنطن وأموالها، قروضا واستثمارات ومساعدات وهبات، في حين أن الصين لا تبدو بهذا القدر من الاحتياج.
فما الذي يمكنه إذا، وتأسيسا على كل ما سبق، أن يفسر ذلك السلوك الصيني؟
هناك معطى إحصائي، أذيع في الأيام الماضية من دون أن يستثير الاهتمام الذي يستحقه، خصوصا في وسائل الإعلام العربية، ربما كان بالغ الأهمية والدلالة ومثّل أحد مفاتيح فهم السياسة الصينية الحالية. فقد أعلن قبل أيام أن الصين حققت، أو هي ستحقق، خلال سنة 2002 الجارية، نموا قياسيا في ناتجها الداخلي الخام، بحيث يتجاوز حجمه الألف بليون دولار، بل إنه سيبلغ على نحو أدق ألف ومئتين وثمانين بليون دولار، وهذا التفصيل الأخير حاسم جدا، إذ أنه يعني أن الصين احتلت مرتبة القوة الاقتصادية السادسة في العالم، وانتزعت من إيطاليا، التي أصبح ترتيبها السابع، ذلك الموقع. وتقول أكثر التوقعات جدية، إن الصين ستتجاوز فرنسا (صاحبة المرتبة الخامسة حاليا) خلال السنتين المقبلتين، ثم بريطانيا، وبعد ذلك ألمانيا في غضون عشر سنوات. وبطبيعة الحال، لا يتعلق الأمر إلا بحجم الثروات المنتجة خلال عام، وذلك لا يعني أن الدخل السنوي للفرد الصيني (وهو في حدود الألف دولار) قد أصبح موازيا لنظيره في البلدان المصنعة، بل هو يبقى أدنى منه بكثير، بل أدنى من الدخل الفردي في بلد من العالم الثالث، صغير وقليل الموارد، كتونس مثلا لا حصرا.
ولكن تلك الطفرة الصينية تؤشر مع ذلك إلى مدى الانقلاب العميق الذي طرأ على موازين القوة الاقتصادية في العالم والتحولات الجذرية التي تشهدها تلك الموازين بفعل هذا العامل الصيني الذي ربما لم يكن في حسبان أحد قبل فترة قصيرة من الزمن.
ولكن ما دخل كل ذلك بمسألة الحرب على العراق وبالأحادية الأميركية وبأمر مواجهتها؟ من الواضح أن الصين قد جندت كل طموحها القومي، وكل توجهاتها الاستراتيجية، تفكيرا وطاقة وعملا، نحو هدف التحول إلى قوة اقتصادية كبرى، بين تلك الكوكبة التي تحتل موقع الصدارة في ذلك الصدد، ونحو التحول إلى دعامة أساسية من الدعامات التي يقوم عليها النصاب الاقتصادي في العالم. والصين، تبعا لذلك، يبدو أنها تنظر إلى أرجحيتها في العالم، في المدى البعيد، وترى في نموها الاقتصادي الاستثنائي، وتيرة وحجما، وسيلتها المثلى في تحقيق ذلك الهدف، كما ترى أن نموها الاقتصادي المتعاظم ذاك لايزال، على رغم ما شهده من تطور مذهل، هشا في بداياته، يتعين عليها أن تدرأ عنه أي تأثير أو أي تداعيات سلبية قد ولايات المتحدة، تلك التي تمثل السوق الرئيسية لمنتجات الصين، والمصدر الأساسي للاستثمارات الخارجية الوفيرة التي تنهمر عليها.
ومن يتمعن في سلوك بكين حيال كل الأزمات التي نشبت بينها وبين واشنطن في السنوات الماضية، بما في ذلك تلك التي تعنيها على نحو مباشر، يلاحظ أن «امبراطورية الوسط» قد سعت دوما إلى تذليلها وإلى تجنب تأزيمها واستفحالها، في حدود ما يحفظ ماء الوجه طبعا... والأمثلة على ذلك كثيرة، من تراجع الصين عن تهديداتها باقتحام تايوان، إلى سكوتها عن تدخل واشنطن في شبه الجزيرة الكورية، إلى طائرة التجسس الأميركية، التي هبطت أو أجبرت على الهبوط في الصين في السنة الفائتة.
ذلك أن الصين قد تكون أكثر البلدان استفادة من مناخ العولمة، على الصعيد الاقتصادي، ولا يبدو أن سيطرة الولايات المتحدة على مقاليد تلك العولمة، أو حتى سعيها إلى السيطرة على مقاليد العالم، أمر يضايقها أو يزعجها أو يعرقل طموحاتها، بذلك المعنى الاقتصادي الذي سبقت الإشارة إليه، على الأقل حتى الآن، وربما في المستقبل المنظور. فالصين اكتسبت من أسباب القوة، العسكرية والنووية، ما يمكنها من تحصين أمنها في مجالها الإقليمي، ولا يبدو أنها تطلب، راهنا أكثر من ذلك.
لكن سؤالا يطرح نفسه: أليس من قبيل التناقض أن تبدي الصين هذا القدر من الخمول حيال المشكلة العراقية، وسواها من مشكلات الشرق الأوسط، علما بأنه يفترض في نموها الاقتصادي، وما يلازمه من طلب متزايد على الطاقة، أن يدفعانها إلى قدر من الانخراط أكبر في أزمات تلك المنطقة؟ ذلك ما قد يبدو عصيا على الفهم والتعليل، وإن لم يكن من المستبعد ألا تكون الصين معنية كثيرا بمن من شأنه أن يسيطر على الشرق الأوسط، طالما استمر تدفق المحروقات، وأن ما يهمها استقرار تلك المنطقة ووضع حد لحروبها واضطراباتها، حتى تصبح مصدرا آمنا للطاقة، سواء تحقق ذلك الاستقرار بواسطة القوة الأميركية أو أية وسيلة أخرى... هو مجرد تخمين لا أكثر.
ومهما يكن من أمر، فإن في ما سبق ما قد يكون موحيا بحدود المراهنة على الدور الصيني، سواء تعلق الأمر بالحرب على العراق أو بالقضية الفلسطينية، أو بأية قضية أخرى من قضايا المنطقة
العدد 53 - الإثنين 28 أكتوبر 2002م الموافق 21 شعبان 1423هـ