العدد 53 - الإثنين 28 أكتوبر 2002م الموافق 21 شعبان 1423هـ

قناة الجزيرة «نزوة» قطرية أم «حاجة» عربية

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

في حياتنا العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما يختلف عليه فيما بيننا الكثير، إلا أن الاختلاف على (ظاهرة قناة الجزيرة) وأعني بها المحطة التلفزيونية المنطلقة من الدوحة ربما يحتاج منا إلى وقفة تأملية في دور هذه المحطة وأهدافها، هذه الوقفة تستدعي الحذر وتبتعد عن التبسيط أو التعميم، ويجدر ان يعمل العقل فيها ويُبعد عن العاطفة، فالاعلان الذي صدر الاسبوع قبل الماضي عن وزراء الاعلام في الخليج بمقاطعة «الجزيرة» يدل على غياب الرؤية، وأكثر من ذلك ضعف القدرة، فالتاريخ لا يسير باتجاهين متعاكسين في منطقة واحدة.

أتعاطف بشدة في موضوع الجزيرة مع فئة عربية يدعونها الدبلوماسيين ( السفراء العرب في الدوحة) فهذا السفير العربي أو ذاك الذي لا حول له ولا قوة فيما حدث، معرض عمله في الدوحة، وربما مستقبله للخطر اكثر من اي سفير عربي في أية عاصمة أخرى، فالكثير منهم تضطرب حياة ابنائهم وعائلاتهم ويتعرضون للتذبذب المهني، بسبب ما تقوله الجزيرة في بعض الأحيان عن حق، وفي احيان اخرى عن غير ذلك، بل وربما محشو بالاستفزاز مما لا يضيف شيئا معقولا إلى الصالح العام، ولكن واحدا من الضحايا يبقى هو السفير الذي يجد نفسه في غير موقعه فجأة وربما لا يعود إليه. يأتي من يقول لك ان هذه المحطة هي من جملة الحملة الاميركية على المنطقة لإظهار الكثير من سوأتها تمهيدا لتغييرها، وعندما تتفحص الوثائق ترى ان الكتابات الاميركية غاضبة ايضا، في شكلها الرسمي على الأقل، مما تقوم به هذه المحطة، فالكثير مما تبث هو في الواقع نقد قاس لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة، بل تجد ان بعض المسئولين الاميركان انفسهم في احاديثهم الخاصة يضجون بالنقد لما تقوم به «الجزيرة» من تحريض ضد مصالحهم، ولكن لا بد من الاستدراك، فالمحطة ينقل عنها الكثير ويستشهد بها في وسائل الاعلام الاميركية، فكيف يكون الشيء ونقيضه في الوقت نفسه؟

يتحدث البعض عن ان الجزيرة لها اجندة خاصة بها. وتتفحص القول لتتعرف على الاجندة بعقل مفتوح، فتحتار في ما إذا كانت هناك اجندة بعينها، لان «الجزيرة» فيها الابيض والاسود والرمادي احيانا، بل ان قسوة وربما صلف بعض المحاورين تجدها في اكثر من مشهد وبأكثر من اتجاه، وقد تختلف أو تتفق مع وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم إلا ان ما قاله على قناة «الجزيرة» الاسبوع الماضي لم يتعود عليه، على الاقل، المواطن العربي ويأتي من وزير خارجية في منصبه، كما لم يقدم على هذا (الاستجواب) العلني اي مسئول عربي آخر!.

إذا ما سر الجزيرة ان كانت هناك اسرار، لعلّي أسارع إلى القول انه لايوجد بحسب علمي حتى الآن، إعلام مستقل كل الاستقلال، لا بد ان يكون وراءه (مصلحة) ما، والكتابات الاكاديمية الغربية الكثيرة تقول لنا مثلا ان وراء كل من وسائل الاعلام الغربية مصالح، اما صناعية او اقتصادية أو سياسية أو حزبية، مصالح من نوع ما، صحيح ان بعضها يبدو من دقة تنفيذه بشكل مهني رفيع، ان لا مصالح خلفه إلا المصالح المرسلة إلى الناس، إلا ان الغالبية الاعم من وسائل الاعلام لها متكآت بشكل ما.

من المؤكد ان مارشال مكماهون عندما اطلق رؤيته في الثلث الاخير من القرن العشرين أن العالم سيتحول إلى « قرية كونية»، كان محقا في قوله جزئيا، ولو ان هذه القرية لم تتحقق إلا في الاعلام أو الاتصال، لان هذه القرية اقتصاديا وثقافيا مازال بها الكثير من الفوارق فهي مليئة بالأزقة المتربة، وغير المنيرة، ومنازلها ليست كلها موصولة بالمياه الجارية، وبها من يمارس الطقوس التقليدية عوضا عن الطب الحديث، مكماهون محق إن فهمنا قوله ان القرية الكونية تحققت بسبب سرعة وسائل وثورة الاتصال غير المسبوقة.

ويبدو ان العرب في ثورة الاتصال هذه قرروا ان يدفعوا البلايين من الدولارات ليسمعوا بعضهم بعضا، أو قل لينقذوا بعضهم بعضا، والجزيرة اخترقت جزئيا هذا الاستماع البيني المحدود بين العرب إلى فضاء اكبر نسبيا، عندما اتخذت خطوات عملية للالتصاق بالحوادث وخصوصا في افغانستان، وبالتحديد في بداية انطلاق تلك الحوادث الدامية، فقد نقل عنها العالم كما تابعها ملايين من البشر، لمعرفة ما يدور هناك، كان ذلك بسبب مهم من دون التطرق إلى ( نظرية المؤامرة) ذاك السبب هو مصالح مشتركة من طرفين «الجزيرة» كناقل وكوسيلة إعلام يهمها الانتشار، والقاعدة كتجمع سياسي يريد ان يوصل صوته إلى العالم من دون ان يتكلف كثيرا، ولا انسى تعليق احد الاصدقاء القطريين الرسميين في تلك الايام عندما قال تعليقا على وجود كويتيين وإماراتيين وسعوديين وبحرينيين في تنظيم «القاعدة»، قال: الحمد لله لا يوجد احد من القطريين مع «القاعدة»، ثم استدرك ضاحكا... غير «الجزيرة»...! ولكن «الجزيرة» ليست فقط ناقلا للأخبار الساخنة، فهي ايضا مقدمة لبرامج مكلفة وتقنية ومهنية تجبر الكثير من المشاهدين العرب في اماكن كثيرة على ان يتابعوها، وخصوصا المختصين ومن يريد ان يفهم العالم حوله بشكل اكثر جدية.

ان (ظاهرة) الجزيرة تفرض علينا الحديث عن الاشكالية المعقدة بين الاعلام الحديث وتقنياته وتنفيذه بشكل فيه حرفية عالية وحديثة، وبين المجتمع العربي المعاصر بنسيجه المعقد، وثقل ثقافته التقليدية، ولا أستثني هنا احدا من المجتمعات بما فيها المجتمع القطري، الذي تنطلق من أرضه الجزيرة، فهذا المجتمع العربي على امتداد الدول العربية وفي الخارج، الذي تربى لفترة طويلة على (الحماية الفكرية) والمعلوماتية، يضيره ويؤثر في سلوكه في نظر البعض تدفق معلوماتي، حتى لو كان غير صحيح من حيث المبدأ، وان المعروف شعبيا والمتداول عن طريق السماع والقول المنقول خطأ كان ام صحيحا، قد يصبح خطيرا عندما يؤطر من خلال شاشة، ويصل إلى المشاهدين، ويعتقد البعض ان ذلك يختلف تأثيره عندما يذاع عنه، عندما يقال وينقل بين الناس؟ هذه الفكرة المركزية هي ما يقلق البعض ويجعل مما تقوم به الجزيرة موقع خلاف، يتعدى الخلاف في الرأي إلى تفسير النوايا.

ظاهرة «الجزيرة» في بعض تجلياتها هي صدى للسلوكيات السياسية العربية، فبعض العواصم تجرب المقاطعة، ثم تجرب التودد، ثم تجرب التفاعل، كما ان بعض مقدمي البرامج يستخدمون سمعة «الجزيرة» أو (إمكان تهديدها) لتحقيق اهداف (وطنية) وخصوصا في موطنهم الاصلي ، فيقوم احدهم ياستمالة متحدث رسمي ويكون (لطيفا) من جانب معه، ربما مسايرته تخوفا من عواقب وخيمة أو ابتغاء منفعة في بلده، وفي الوقت نفسه (يبيع) الفكرة لادارة الجزيرة على ان ما يقوم به هو مكسب اعلامي يجب عدم التفريط فيه، وهو امر اولا ممكن في مثل ظروفنا العربية، ويسميه البعض (الاختراق) أو محاولته على الاقل، بزرع متعاطف ينظر بعين الرضا لما يحدث في بلاده ويسوقه للمشاهد، وهناك شواهد على هذا الامر لا تخطئها عين المتابع اليقظ، والعكس صحيح أو يمكن أن يصح.

قوة «الجزيرة» في ضعف الخيارات والبدائل العربية المتاحة، يعضدها هوس الارتياب، وهي قوة تحتمل الضعف في استمرار بعض مقدمي البرامج بخلط الشخصي الموضوعي معا، وتحويل الحوار إلى استنطاق بوليسي، فيتحول البرنامج الحواري إلى برنامج ترفيه للعامة.

«الجزيرة» ليست نزوة قطرية بقدر ما هي حاجة عربية في الوقت الحالي، ومنافسها الصحيح هو رفع سقف الحريات واعتماد الصدق والشفافية والجرأة في طرح الموضوعات العامة، فهي تعتمد على الذكر العلني لما تعتقد انه محرمات، وعندما تزول المحرمات تبقى الجزيرة واحدة من محطات التلفزة التي يجوز ان تشاهد كما يجوز الانصراف عنها

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 53 - الإثنين 28 أكتوبر 2002م الموافق 21 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً