في كل نقاش بشأن الديمقراطية في العالم العربي تتعايش مفاهيم متناقضة، فهناك رأي يركز على ضرورة عودة الدولة بما تمثل من احتكار للجيش وللقوى الأمنية، وذلك في ظل السيادة وسلطة القانون. فغياب الدولة وفق هذه الرؤية يؤدي إلى الاقتتال واستباحة الحدود ويفتح الباب للتقسيم. لكن رأياً آخر في العالم العربي يستند إلى الكثير من المنطق، يؤكد بأنه لولا النظام السياسي العربي الذي سيطر على الدولة، واستفرد بالثروة والقرار والاقتصاد ورعى الفساد وتلاعب بالمكونات والهويات الصغرى، ثم قلص المساحات الحرة والحقوقية، لما انتهى العالم العربي منهاراً وخاضعاً أمام القوى الخارجية. فالدولة في معظم البلدان العربية لم تقم بواجباتها كدولة ذات سيادة تجاه المواطنين، فهي لم تكن فعالة في التنمية والإدارة والحوكمة (إلا ضمن استثناءات وفي مراحل محددة)، ولم تكن فعالة في التعامل مع الخارج وفق مقتضيات السيادة، كما لم تكن فعالة في الوقت نفسه في تأمين الحريات والحقوق وسيادة القانون بعدالة ومساواة. لهذا انتهى الأمر في الدولة العربية بإنضاج فعاليتها الأوسع من خلال ممارسة أحد وظائف الدولة بلا محددات أخلاقية: القمع والانتهاك باسم القانون. لهذه الأسباب انهارت الدولة في الكثير من بقاع العالم العربي.
بين النماذج تستمر النزاعات والصراعات، فالنظام السياسي السلطوي مستمر في العالم العربي، لكنه حتى الآن يعجز عن تقديم حلول ناجحة (كما هي حال الصين حيث أولوية الكفاءة ومشروع بناء الدولة). في المقابل فإن منطق الحقوق، الذي لايزال الأضعف في التوازنات العربية، يصارع لتبوء مكانته في ثقافة رسمية عربية وضعته في آخر السلم. صراع العرب بشأن الدولة ودورها وحدودها وحقوق المواطن في ظلها دخل منعطفاً جديداً في العام 2011.
لقد سعى الكثير من الدول العربية ومنذ عقود عدة، كحل لأزمة الشرعية، إلى اللجوء إلى الديمقراطية الإجرائية والشكلية، التي تتضمن نسبة من الانتخابات والدوائر والأصوات والتمثيل. لكنها في سعيها أبقت القوة والسلطة في يد فئة تنفيذية لا تخضع للانتخابات والمساءلة الحقة. إن ديمقراطية النخبة الشكلية أفضل من عدمها، لكنها تقود، مع الوقت، لإفشال العملية السياسية كما التنموية. فالديمقراطية الإجرائية الشكلية، وفق المقاييس الإقليمية العربية، لا تجري تعديلات في أسس الاقتصاد والسياسة، وحالة التهميش والاستيعاب وعلاقة الغالبية بالأقلية، والقوي بالضعيف والريف بالمدينة. في الديمقراطية العربية الإجرائية (كحال الأردن والكويت وحال مصر في زمن الرئيس حسني مبارك وحال المغرب ولبنان نسبياً ودول أخرى) بإمكان السلطة التنفيذية تغيير قوانين الانتخاب بصورة منفردة، وبإمكانها تعيين الحكومة أو التأثير في تعيين الحكومة من دون الرجوع إلى الناخب، فهي تلعب اللعبة الديمقراطية من دون أن تمارسها. وقد أدى هذا النموذج إلى التنفيس السياسي، لكنه أدى أيضاً إلى تفضيل أهل الولاء على حساب أهل الكفاءة والخبرة، كما أدى إلى تفضيل فئة (تعتبر موالية) على حساب كل الفئات. هذا النموذج ساهم في إفساد الدولة، على رغم الاختلافات بين دولة عربية وأخرى، كما أدى إلى تراجع كبير في الإدارة والإنتاج والتعليم والصحة والخدمات التي تقدمها الدولة.
وعلى رغم كل نواقص الديمقراطية الشكلية من الصعوبة بمكان أن تتحول إلى حالة منهارة كما في العراق وسورية واليمن وليبيا والسودان. ففي ظل الديمقراطية الشكلية هناك أمل بالإصلاح وإمكانية لوجود مساحة مدنية للتعبير. هذه الأبعاد تعتبر عناصر محفزة لعدم انفجار التناقضات بصورة مفاجئة. وعندما تنفجر التناقضات تعبر عن ذاتها بصورة متوازنة، وهذا يجعل انهيار الدولة في ظل تجارب كهذه أمراً عسيراً.
لكن من جهة أخرى، قلما تنجح الديمقراطية الشكلية في الانتقال نحو الديمقراطية الحقة، من دون حراكات وصراعات سياسية واجتماعية، وأحياناً انتفاضات بشأن الإصلاح. الأسئلة التي تثيرها الديمقراطية الشكلية كثيرة؛ لأنها تخضع لاحتكار مجموعة من دون أخرى، بينما يتراجع التعليم والخدمات الصحية ودور الدولة ومكانة الطبقة الوسطى. إن الديمقراطية الإجرائية قلما تنجح في إدامة الاستقرار، إلا إذا نجحت في بناء أسس للإصلاح تؤدي إلى العدالة والحكم الرشيد والحقوق.
إن تطور الديمقراطية في التاريخ جاء بهدف إيجاد طريقة سلمية لتغيير الحكومات والسياسات وتدوير صناع القرار في ظل مساحة موسعة للحرية والحقوق. إن اقتصار الديمقراطية فقط على انتخاب برلمان يناقش ويشرع قد يرفع وتيرة الحياة السياسية والمساءلة، لكن تأثير ذلك يبقى محدوداً إذا لم يقترن بالقدرة على صنع القرار الحكومي، وصناعة السياسات وتطبيق القوانين. هذا جوهر مأزق الديمقراطية الشكلية.
يضاف إلى المشكلة السابقة أن الدول، سواء كانت ديمقراطية أو خاضعة للديكتاتورية، تنجرف في عزل جماعات سياسية أو فئة اجتماعية، وهذا يتحول إلى مدخل لاهتزاز بنيانها. وقد انتشر في العالم العربي شكل من العزل استهدف فئات لا تمارس العنف كالإسلاميين (من خارج الجهادية) وأحياناً الليبراليين والعلمانيين والمثقفين واليساريين والحقوقيين أو إحدى الطوائف أو أقلية قومية. في هذه الدول ترتفع وتيرة الاستماع لصدى السلطة في المجتمع، ما يخلق حالة من حالات الإرهاب الفكري والجماعي. وقد أدى هذا العزل إلى خلق حالة اغتراب بين فئات واسعة والدولة. هذا فخ يقع فيه العالم العربي، وقد شاهدنا درجات من هذه الإشكالية في بعض أكثر الديمقراطيات تقدما (محاولات عزل المسلمين في الغرب).
إن العزل السياسي مأزق دائم في الأنظمة التي لا يتمتع فيها المواطن بحقوق ثابتة، ورقابة واضحة وقدرة على التغيير السياسي السلمي. ولا نبالغ إذا قلنا إن عدو كل دولة هو كل ما يقلص المساحة العامة، بهدف عزل آراء ووجهات نظر وجماعات سياسية بل وإثنية وفئوية. فلا يمكن أن تتقدم التجربة الديمقراطية في مجتمع ما من دون مساحات عامة مفتوحة، ومن دون أفق للانتقال نحو واقع سياسي ديمقراطي أكثر استيعاباً لكل الفئات. لكن في غياب ذلك تبقى المفاجآت ممكنة والتحولات غير مرئية للنظام السياسي كما للرأي العام.
وعلى رغم الحالة الصعبة منذ العام 2011، والتي أعلنت بداية تاريخية لسقوط العقد الاجتماعي العربي بين الحاكم والمحكوم، كما عرفناه منذ الاستقلال، إلا أن القضية الحقوقية والتنموية ومسألة العدالة ودور الدولة ستبقى تشغل النشطاء والثوريين والإصلاحيين العرب إلى حين التوصل لعقد اجتماعي جديد يوازن بإبداع بين حقوق المواطنين والشعوب وكراماتهم وتنمية البلاد من جهة ودور الدولة وسلطة القانون ومكانة الجيوش والأمن من جهة أخرى. يبقى العالم العربي في لحظة انتقال. هذه اللحظة تتكون من سنوات شاقة ونزاعات بالكاد قد بدأت.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 5254 - الثلثاء 24 يناير 2017م الموافق 26 ربيع الثاني 1438هـ
مقال واقعي هذه المرة عكس المرة السابقة والمقال خيالي، وشكراً للكاتب.
مقال مبدع وفي الصميم
القبول بأن نكون في مؤخرة الركب هم بعد مو عاجب الأنظمة لذلك يريدوننا ان نكون خارج التاريخ