ليس خافياً على أحد تعثّر تطبيق مخرجات اتفاق الصخيرات بشأن حلحلة الأزمة الليبيّة؛ فحكومة فائز السراج المنبثقة عن هذه المباحثات الماراثونية في المغرب أواخر العام 2015، والمعترف بها دولياً، لم تستطع بسط سيطرتها على التراب الليبيّ على رغم مّا تحقّق معها في حربها ضدّ «داعش» في مدينة سرت. لكنّ ذلك لم يكن كافياً لتحصل على اعتراف البرلمان الليبي المنتخب بها، ولا لتلقى دعماً من اللواء المتقاعد خليفة حفتر في الشرق الليبي.
كما لا يخفى على أحد انشغال دول الجوار ولا سيما تونس بالوضع في ليبيا، كونها المتضرر الخارجيّ الأول من تفاقم الأزمة الليبية على جميع المستويات. من هنا انبثقت المبادرة التونسيّة والتي، وإن اختارت الدبلوماسية العمل عليها في صمت، إلا أنّ أهميّتها للداخل الليبيّ ودول الجوار جعلها تحظى باهتمام إعلاميّ ومباركة من مبعوث الأمم المتحدة مارتن كوبلر. فهل تنجح قمّة تونس المرتقبة في حلّ الأزمة الليبية؟
ليست المساعي التونسية لحلّ الأزمة الليبية وليدة اليوم أو الليلة، ولكن نكاد نجزم أنه منذ اندلاع الثورة في ليبيا والإطاحة بحكم معمر القذافي، انشغلت الأطراف السياسية الفاعلة في تونس والحكومات المتعاقبة، والرئيسَان المنتخَبان، بالشأن اللّيبي لأسباب كثيرة؛ فالجميع يذكر هجرة الليبيين والمقيمين فيها إلى تونس أواخر حكم القذافي، ولا أحد ينسى الدور التونسي العظيم الذي قامت به من خلال فتح حدودها لآلاف اللاجئين في مخيم «الشوشة» جنوب البلاد، فضلاً عن استقرار الكثير من العائلات الليبية في المدن التونسية، وبعضهم لا يزال إلى اليوم مقيماً معزّزاً مكرّماً في تونس؛ بحكم العلاقات التاريخية التي تجمع البلدين وعمق الروابط بين الشعبين التونسيّ والليبيّ.
وقد ازداد الوضع تأزّماً بعد انسداد الأفق أمام حكومة السراج؛ ذلك أن اتفاق الصخيرات لم يضمّ كل الأطراف على طاولة الحوار، لذلك اعتبر البعض أن ذلك الاتفاق هشّ ولن يصمد مع الأيام. من جهة أخرى، ومع قرب انتهاء الأزمة السورية، قد لا يكون للمقاتلين الدواعش ومن لفّ لفّهم غير ليبيا ملجأً لمواصلة مسلسل الدم الذي تخرجه القوى التي تدعمهم. ومع دخول الأزمة الليبية عامها السادس من دون أمل في الحسم على الأرض، لصالح هذا الطرف أو ذاك، يتواصل الصراع الذي يهدّد الأمن القوميّ لدول المنطقة، خاصة دول الجوار، وهي تونس والجزائر ومصر.
وأمام هذا الوضع المتفجر، وأمام خطر الانقسام أو التجزئة، أوضح الرئيس التونسيّ أنّ «دول الجوار المحاذية مباشرة لليبيا، وهي الجزائر ومصر وتونس، لها المصلحة الكبرى في أن ترى ليبيا جادة في رأب الصدع، متّجهة إلى الوفاق والوحدة الوطنيّة، ولا يحقّ لأيّ بلد جار أن يتدخّل اعتماداً على أجندة خاّصة، وأن الأجندة الوحيدة تبقى أجندة ليبيا والليبيين، فخطر التقسيم داهم حقّاً وعندها تكون الطامة الكبرى»، وأكّد أنّ بلاده تقف مع ليبيا البلد، وتحرص على أن لا تكون ليبيا عرضةً إلى الانقسام أو إلى التجزئة.
من هذا المنطلق كانت الجهود التونسيّة؛ حيث توجّه الرئيس الباجي قائد السبسي بزيارة خاطفة، لم يسبق الإعلان عنها، إلى نظيره الجزائري دامت بضع ساعات. ومتابعةً للقاء الجزائر، التقى السبسي برئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح الذي رحّب بالمساعي المبذولة من قبل تونس ودول الجوار لمساعدة الأطراف الليبية على إيجاد حلّ سياسي يُعجّل بإنهاء الأزمة عبر الحوار والتوافق». وعبّر وزير الخارجية في الحكومة الليبية المؤقتة محمد الدايري، عن ترحيب حكومته بالمبادرة التونسيّة لحل الأزمة السياسية التي تعيشها بلاده. وقال الوزير الدايري إن اجتماعاً ثلاثياً سيعقد نهاية الشهر الجاري في تونس، بحضور وزراء خارجية كل من تونس والجزائر ومصر، تمهيداً لقمة بين قادة الدول الثلاث بشأن المبادرة التونسيّة.
وتستند تونس في هذه المبادرة إلى تجربتها الناجحة أواخر العام 2013 في حلّ أزمتها السياسية بالحوار والتوافق الذي جنّب البلاد خطر التمزّق والانقسام وربما حتى الاقتتال، كما تعتمد على خبرة دبلوماسيتها وحنكة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، وعلى ثوابت راسخة قائمة على عدم التدخل في الشأن الداخلي لليبيا، ووقوفها على مسافة واحدة من جميع الأطراف، ودعوتها إلى ضمان وحدة ليبيا وأمنها واستقرارها.
وشدّد الرئيس التونسيّ «على ضرورة أن يكون الحلّ نابعاً من إرادة الليبيين أنفسهم، ودعا كافة الأطراف الليبية إلى الإسراع بإيجاد أرضيّة مشتركة للحوار والمصالحة، ونبذ الفرقة والإقصاء لبناء دولة ليبية ينعم فيها الشعب الليبي بالأمن والاستقرار، بما يقطع الطريق أمام التدخلات الخارجية».
وإذْ تشكل المبادرة التونسيّة بديلاً مناسباً للمبادرات الدولية، التي فشلت في حلحلة الأزمة الليبية، فإنّها تستمدّ روحها من الالتزام بالقرارات الأممية، ولا تلغي دور الأمم المتحدة في مرحلة متقدمة من المباحثات. وفي تعليق له على المبادرة التونسية، أكّد مبعوث الأمم المتحدة في ليبيا مارتن كوبلر ترحيبه بكافة الجهود التي تجمع أصحاب المصلحة لإيجاد حلّ سلميّ شامل، في إطار العمل بشأن الاتفاق السياسيّ الليبيّ وتحت مظلة الأمم المتحدة.
غير أنّ الطريق ليست مفروشةً بالورود أمام هذه المبادرة؛ فلئن كان موقف تونس يتطابق مع الجزائر بشأن طريقة حلّ الأزمة في ليبيا، فإن موقف مصر قد يعرف بعض الاختلاف عنهما. كما أنّ عدم تشريك دول الجوار في الجنوب الليبي قد يضعف من شأن القرارات المتخذة، خاصةً أن هذا الجنوب يكاد يكون خارج سيطرة أيّ كيان سياسي في ليبيا بحكم انفتاح حدوده وامتدادها، ما يشكل بوابة مفتوحة لعبور الإرهابيين والهجرة الإفريقية غير المشروعة، وغير ذلك ما يزيد في تفاقم الأزمة الليبية. هذا فضلاً عن انتشار السلاح بين الليبيين بشكل غير مسبوق، وسرعة احتكامهم إليه، وهو ما يهدّد كل مبادرات ممكنة ويجعلها ربما موؤودة قبل أن تولد.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 5253 - الإثنين 23 يناير 2017م الموافق 25 ربيع الثاني 1438هـ