أنا سمكةٌ صغيرة، خرجت صباح ذاك اليوم لألعب مع صويحباتي عند حقل المرجان القريب، كعادتها حذرتني أمي - بعد أن جدلت زعانفي الملونة وقبلتني - من السمك الكبير، والدود، دودٌ كثيرٌ ملون، يتلوى شهياً مغرياً قريباً من السطح، نحن الأسماك الصغيرة لا نغوص في القاع، القاع باردٌ ومظلم، مسكونٌ بالحيتان، والأخطبوطات ذوات الأذرع الطويلة المسممة، والسفن الغارقة المحطمة، أشباحٌ مجللةٌ بالسواد، نراهم كثيراً يدورون حول حقل المرجان، لديهم أربعة أذرعٍ، بزعانف مفلطحة في الطرفين الخلفيين، وفمٌ غريب، ينفث الفقاقيع دائماً وبلا توقف، تؤكد جدتي، وهي حكيمةٌ، عليمةٌ بعوالم البحار، أن اسمهم البشر.
هم أخطر من الحوت والأخطبوط، وسرطان البحر.-
تقول، وفي صوتها رعشةٌ، ومن عينيها يطل خوفٌ قديم، نشهق مندهشين، فتومئ برأسها بثقة العارفين مؤكدةً:
هم أخطر الكائنات على الإطلاق. -
! أقوى من الحوت الكبير العملاق؟-
أسأل بلهفةٍ، وفضول.
نعم.-
الحوت يأكل كل شيء.-
والإنسان يأكل الحوت.-
الحوت وحشٌ مفترس، لديه أسنانٌ قويةٌ قاطعة.-
لدى البشر ما هو أقوى، وأشد فتكاً. -
لم أفهم جدتي تماماً حينها، لكنني تعودت أن أخاف، صرت احتفظ - بيني وبينهم - بمسافةٍ كافيةٍ لأهرب في الوقت المناسب، كانوا يبدون لطيفين أحياناً، ينثرون علينا حبيبات ملونة لذيذة الطعم جداً، ليست طريةً كالدود لكنها أشهى، أنتظر في مكاني لا أتحرك حتى يحملها التيار إليّ فأنقض عليها والتهمها على عجل، مع الوقت بدأت أضيق المسافة، فحركتهم بطيئة على كل حال، يحملون صخوراً تبدو ثقيلةً جداً على ظهورهم، وأنا ابنة البحر، صغيرة، وسريعة، حتى لو أمسكوا بي؛ يمكنني الإفلات بسهولة، سأنزلق من بين أصابعهم، كما أنهم لا يبدون أشراراً جداً لهذا الحد، والطعام شهيٌ أيضاً، يستحق مغامرةً صغيرةً لا تصل حد المخاطرة، في الأيام التي يغيبون فيها أظل أدور حول الشعب اللامعة باحثةً عن حبيبةٍ ما ربما تكون قد علقت ولم ينتبه لها أحد، أظل حتى تجيء أمي باحثةً عني، تحذرني معاتبةً من مغبة البقاء خارج البيت وحدي.
حتى وقتٍ متأخر
سينتهي بك الحال طبقاً مقلياً مع البطاطس المحمرة، أو طعماً كهذا الدود الغبي المتدلي دائماً فوق رؤوسنا.
في الليالي الباردة العاصفة، نلتف حول جدتي لنسمع حكايات البشر، حكاياتها دائماً عن البشر، أسأل نفسي: وكيف عرفت كل هذا؟ تبقى حكايات رغم كل شيء، غيب، لا شيء مؤكد أو حقيقي، الحقيقة هنا، هنا حيث الظلام، والخطر المحدق من كل اتجاه، الحوت الكبير لا ينثر علينا الطعام، ينقض لينهشنا بلا رحمة، الأخطبوط القابع في الأعماق، الأسماك الكبيرة العابرة، الطيور التي تقتحم عالمنا فجأةً لتحمل واحداً منا، وتختفي، هنا يا جدتي، هنا، مملكة الخوف، والظلام.
في ذاك اليوم؛ خرجت، قبّلتني أمي وهي تجدل زعانفي الملونة، لم تنس أن تحذرني كالعادة من الأسماك الكبيرة والدود والبشر.
صاحت خلفي، بينما أشق طريقي إلى حقل المرجان... يقولون إننا، الأسماك، بلا ذاكرة لكنني مازلت أذكر تلك الصرخة البعيدة كما لو كانت الآن، وأذكر هذا البراح الشاسع، وحكايات الجدة عن البشر... البشر الذين يلقون إليّ الآن الحبيبات، حبيبات كثيرة ملونةٌ، في الحوض الصغير، لكنها ليست شهيةً جداً، كتلك التي كان يحملها إليّ التيار في البحر، هناك حيث كانت الشعاب لامعةً مشعة، والفضاء رحب... رحبٌ إلى ما لا نهاية.