تحتل الجامعة مرتبة كبيرة في تصدير القوى والكوادر مما يجعلها تمثّل مصدر قوة رئيسي لحركة المجتمع وتطوره، ومثل هذه النظرة للجامعة تستتبع إعادة القراءة للكثير من المفردات المهترئة المُسهمة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في إفراغ «الجامعة» من محتواها الوظيفي الرئيسي.
ومن أسس القراءة الجادة للمجتمع، المعرفة بحركة مصدر تخريج القوة - أي الجامعة - بكل ما تعنيه المعرفة من دلالات تضع الصورة الحقيقية للجامعة كما هي من دون إضافات تجميلية وبعيدا عن أي تمجيد للذات ومحاولة عكس صورة مخالفة للواقع.
فما هي الصيغة الواقعية الملموسة التي تتبناها الجامعة بعيدا عن الشعارات المرفوعة؟ وما هو حجم الفارق بين الرؤى المُعلنة وما يجري في الجامعة من سلوك ضبابي من الصعب تلمّس ملامحه لافتقاره إلى سند عقلي واضح المفردات؟.
هل الجامعة مخرجّة لكفاءات مؤهلة؟ أم أنها مفرخّة لحملة شهادات فقط؟ وهل تصل إلى مرحلة الإقبار المباشر وغير المباشر للإبداع وتفتت القدرات الجادة...؟
هل أصبحت الجامعة مؤسسة تعليمية تتطحنها «البيروقراطية» وتفقد من روحها نتيجة «الحس الأمني» لتكون «غوانتنامو البحرين» كما أطلقت عليها صحيفة «الوسط» بطريقة هزلية مع ما يجري في جمعية «من لا برج لهم»!!
هل وصلت الجامعة وهي رمز وطني كبير لإمداد المجتمع بكوادر مؤهلة لحمل أعباء هذا الوطن إلى مرحلة الرمزية السلبية التي لا يُنكرها أحد حتى من الإداريين الجامعيين أنفسهم، أليس ما نسمعه ونشاهده بل وما يصيبنا في كثير من الأحيان تحت المظلة الجامعية بكاف كدليل على ما يُدعى عن الجامعة من بُعدها الواضح عن ملامسة حقيقية لمعنى «الجامعة»؟.
أين يكمن الخلل في منظومة وطنية كبيرة كجامعة البحرين، حيث أصبحت مصدر شكوى وامتعاض من منتسبي هذه المنظومة المؤسسية الوطنية؟
وبنظرة تحليلية تستند على رؤية تستمد مصداقيتها من واقع المعايشة في الجو الجامعي أولا، ومن خبرات أناس أكاديميين جامعيين ثانيا، نرى أن تحول الجامعة من منطلق أساسي لحل الكثير من مشكلات المجتمع كونها تمتلك من مقومات القوة ما يؤهلها للتنظير العلمي والترجمة الملموسة للحلول الواقعية للكثير من المشكلات الموجودة في مجتمعنا إلى مصدر تأزم، وطرف مُدعى عليه، وصول المجتمع إلى هذه المرحلة من التعامل مع «الجامعة» كصرح جامعي وطني مهم يستدعي البحث بجدية عن الأسباب والحلقات المفقودة في الجامعة.
وتتمثل تلك الحلقات المفقودة ضمن عدة دوائر هي:
حلقة تنظيم الذات، حلقة التنسيق مع الآخر، حلقة المصداقية المفقودة.
حلقة تنظيم الذات
تتمثل هذه الحلقة المفقودة في ضعف التشجيع لقاعدة البحث العلمي والأدبي للأكاديميين والطلبة، مما يُفقد الجامعة عنصرا أساسيا مهما من مرتكزات القوة الجامعية المهمة في التجديد والتطوير واللحاق بركب الجامعات العالمية المتقدمة، ولا يكفي الإدعاء بمثل هذا الأمر من دون متابعة جادة كتخصيص موازنة لتشجيع البحث العلمي في كل تخصصات الجامعة بالإضافة إلى تشجيع الأكاديميين ماديا ومعنويا على البحث العلمي ما هو كفيل برفع اسم الجامعة من منطلق واقعي علمي ملموس.
ب- إشكال تحديث المواد والمختبرات بما يتناسب مع التطورات العلمية والإنسانية، مثل هذا الأمر يستتبع التراجع في التحصيل الاكاديمي المعتمد على مناهج لا تواكب آخر التطورات خصوصا في المجال التقني والهندسي، فضلا عن نقص واضح من الناحية المختبرية في كثير من أقسام كليات الجامعة، خصوصا بعد زيادة عدد المقبولين من الطلبة في الجامعة.
ج- على الرغم من ضرورة اتباع الطرق الحديثة في الادارة الجامعية المعتمدة على تذليل الخطوات «البيروقراطية» المميتة للعمل، فأن ما يُلمس في الجامعة هو تجذّر البيروقراطية لدرجة مخيفة مما يستتبع النظر بجدية أكبر في ترتيب البيت الداخلي الاداري للجامعة، ومن دون الإقدام على هذا الأمر فضلا عن التفكير فيه، فإن الجامعة لن تغدو أكثر من مؤسسة يحكمها الروتين الميت للروح الجامعية وهي الوقود الفعلي لأي جامعة في العالم.
د- مراجعة وتحديث الواجهات المتمثلة في:
- موقع الجامعة على شبكة الانترنت حيث لا تُقارن مع الصفحات الشخصية فكيف بالصفحات الخاصة بالجامعات في الدول الأخرى، فالموقع يفتقر إلى الكثير من المعلومات التخصصية بالأقسام الموجودة متضمنة الخطة الدراسية ونبذة عن المواد التي تُدرس، وما يُلاحظ أيضا هو فقر واضح في المعلومات التخصصية والعامة المتجددة سواء على المستوى الاكاديمي الجامعي أو الطلابي من قبيل مشروعات التخرج وأوراق الأكاديميين التخصصية وغيرها.
- التعقيد الأمني المُبالغ فيه للجامعة استتبع وصول الحالة إلى تسمية «جامعة البحرين» بـ «غوانتنامو البحرين»، فالحس الأمني المتشدد يلزمه المراجعة من قبل الإدارة الجامعية بصورة جدية وجديدة، لكي يكون رجال الأمن من ضمن صورة متكاملة وحضارية للجامعة بعيدا عن كونه رمزا أمنيا متشددا.
- ابتعاد المسمّى عن الفعل في تطبيق لائحة المخالفات المسلكية لطلبة جامعة البحرين، خصوصا تلك التي تتناول عدم الالتزام بالمظهر اللائق والإخلال بحسن السيرة والسلوك حتى أصبحت الجامعة مرتعا خصبا للتجاوزات المسلكية والابتعاد عن روح تقاليد واعراف المجتمع البحريني، مما يعكس ظاهرة تتأصل، نرى من الناحية القانونية ضرورة الحد منها، بالاضافة إلى دراستها ومعرفة أسبابها بشكل علمي رصين، فالشطط بصورة مبالغ فيها في اللباس بالحرم الجامعي يكون موضع تساؤل معقول ومطلوب، فأين التطبيق للائحة المخالفات المسلكية؟!
حلقة التنسيق مع الآخر
افتقار الجامعة إلى إيجاد صلات وثيقة ومتواصلة مع مصادر القوة في المجتمع يفقدها عنصر أساسي يُخرجها من دائرة التفاعل المطلوبة مع المجتمع، وتتمثل تلك الصلات في الآتي:
- التنسيق بين الجامعة ووزارة التربية والتعليم، ويبدو أن مثل هذا التنسيق بعيدا عن المدعى وليس واقعا، وإن كان فهو غير منظم وضعيف، وإلا فما هي علة بطالة الكثير من المدرسين بحجة التشبع في سوق العمل منهم، مما استدعى إبرام عقود مع مدرسين عرب، ألا يلزم التنسيق بين الجامعة ووزارة التربية والتعليم بصورة مستمرة وجادة لكي لا تتكرر مأساة الكثير من خريجي الجامعة من المدرسين والمدرسات، وعدم التحرّك الجدي في إيجاد هذه الصلة سيولّد أزمات متكررة من البطالة تكون الجامعة طرفا لا يُغفل سؤاله وعتابه.
- المتابعة المستمرة بين الجامعة ووزارة العمل والشئون الاجتماعية لمعرفة التخصصات المطلوبة في سوق العمل سواء في القطاع العام أو الخاص، فضلا عن القيام ببرامج توعية متكاملة في الجامعة لإيضاح صورة واقع سوق العمل ومتطلبات التخصص الجامعية المتوافرة للطلبة الخريجين، مثل هذا الأمر وإن وُجد فهو ضعيف جدا.
- تهميش الجامعة في الإعلام المحلي:
ما يتحرك على السطح الإعلامي المحلي للجامعة مقتصر على الإعلام المقروء «الصحافة» بتخصيص صفحة إخبارية في «الأيام» وأخرى تتناول القضايا والمشكلات الجامعية في صحفية «الوسط»، ودونهما يختفي اسم الجامعة في الإعلام المرئي والمسموع المكتظ بالكثير من القضايا مما يستدعي التأويل بأن الجامعة بمنأى عن أي تغيير في المجتمع إلا من الحال المهرجانية الطفولية فقط.
مثل هذه الصلة المفقودة تُسهم وبشكل كبير في عدم إكمال الصورة الواقعية للجامعة بالنسبة للمجتمع، وإن اجتهد البعض في استعمال إسقاطات لفظية وهمية على من يتناول هذا الموضوع، وفقدان الحلقة مع المجتمع الضامن للتفاعل الإيجابي مقدمة بديهية للتفريط في الصيغة الواقعية للجامعة.
حلقة فقدان المصداقية
تحقق مثل هذا الفقدان معناه إفراغ الجامعة من مسماها المطلق عليها، وتخلخل العلاقة بين طرفين يشكلان عمق التحرك الجامعي وهما الإدارة الجامعية والطالب، يستدعي النظر بجدية كبيرة لأصل ذلك التخلخل، والعمل على معرفة الأسباب وإرجاع الثقة بين الطرفين يكون واجبا اجتماعيا بل واجب وطني لما لتلك الثقة في العلاقة من أهمية كبيرة لرسم الملامح العامة للحركة الحاضرة والمستقبلية للمجتمع عبر الطالب الجامعي.
وتحقق الثقة لا يأتي عبر مدعيات إعلامية، بل من خلال تقرّب وتلمس لتوجهات الطالب وهمومه والسعي لتذليل الصعاب في الحياة الأكاديمية له، وبتأسيس مجلس الطلبة بالجامعة ينبغي إثر ذلك توسيع دائرة الثقة عبر نزع التصورات السلبية عند الطلبة إزاء المجلس الطلابي، وترجمة ذلك الأمر لا يتأتى إلا عبر مشروعات ملموسة وواقع يعيشه الطالب الجامعي ليشعر بقرب أبوي أكاديمي من قبل الإدارة الجامعية، ولتتحقق توليفة طالما حققت الكثير وكانت التركيبة القوية التي ضمنت لجامعات عالم'ية أن تحتفظ بالأسبقية في مجال الدراسة الأكاديمية وصقل المواهب وتوفير التسهيلات للطالب الجامعي بما يضمن إيجاد روحية وقادة هدفها الرقي الأكاديمي ورفع اسم الجامعة عاليا
العدد 52 - الأحد 27 أكتوبر 2002م الموافق 20 شعبان 1423هـ