كما كان للعرب أعداء كان لهم أصدقاء أيضاً. كان آرثر جيمس بلفور وفرانسوا جورج بيكو ومارك سايكس أعداء للعرب، وكانت دولهم التي تسيّدوا فيها أيضاً عدوة للعرب. لكن كان هناك جوزيف بروز تيتو الذي آزر الفلسطينيين بالدَّم ورغيف الخبز، مُسخِّراً بلاده يوغسلافيا كي تناصرهم.
لم يكن السياسيون الغربيون هم فقط مَنْ تمايزوا في دعم العرب أو الوقوف ضدهم خلال فترة النضال ضد الاستعمار، بل حتى الفلاسفة وأهل الثقافة كانت مواقفهم متباينة. ففي اللحظة التي ظهر فيها فيلسوف الوجودية ألبير كامي مُنظِّراً للاحتلال الفرنسي ومتهكماً من الفدائيين الجزائريين وتسميتهم بالإرهابيين، ظهر هناك فلاسفة ومثقفون فرنسيون كثير كانوا خلافه.
كان هناك جان بول سارتر (1905م – 1980م) والمحامي الللامع جاك فيرجيس (1925م – 2013م). والأهم كان هناك فرانتز فانون الذي ناصَرَ الجزائريين وافتتح عيادة هناك كي يعالجهم ويقول لهم أن مقاومة الاضطهاد هو علاجكم، وعندما أصيب بالسرطان وتوفي في الولايات المتحدة أوصى بأن يُدفَن في الجزائر. وربما القائمة تطول ونحن نُدوِّن فيها أسماء الأوروبيين الذي كانوا على ذات الكتف.
قبل أيام رحلت شخصية مماثلة، كانت مناصرة للعرب، وتحديداً الجزائريين وهو الصحافي السويسري شارل هنري فافرو عن عمر ناهز الـ 90 عاماً. وربما جيلنا يعتقد أن هذا الرجل هو مجرد صحافي، ومصوّر كرّس حياته في متحفه في أحد كانتونات سويسرا؛ لكن الحقيقة أنه أكبر بكثير من ذلك التوصيف. وربما إطلالة على كتابه: «الثورة الجزائرية» يعطينا الوجه الآخر لعقله وقلبه.
لقد قادته الكلمة في مشواره الصحافي إلى أراضي وهران وقسنطينة وورفلة والأغواط وسيدي بلعباس وعموم الجزائر، حيث لم يستطع أن يَلْوِي الحقيقة وكلماتها كي يقول بعكس ما شاهد بعينيه. فبدأ ومنذ العام 1952م يكتب عن ذلك في الـ غازيت دو لوزان. ثم تطور عمله كي يكون وسيطاً في ذلك الصراع، وهي الوساطة التي كرّس فيها الاعتراف بالمقاومة ضد الاحتلال الفرنسي.
فبعد 9 سنوات على عمله الداعم للجزائريين، قاد وساطته الأولى في مدينة الدبلوماسية الأوروبية «جنيف» بين مُفوّض فرنسي هو كلود شايي وأحد قيادات الثورة الجزائرية سعد دحلب. وأهمية ذلك اللقاء تكمن في أنه مهّد الطريق للاتفاق الأكبر بين الجانبين، والذي عُرِفَ وما يزال «باتفاق إيفيان»، والذي وضع ملامح استقلال الجزائر في الخامس من يوليو/ تموز العام 1962م، وبالتالي دوره في نيل الحق.
بالتأكيد، كان شارل هنري فافرو ولما يتمتع به من علاقات قوية مع القادة الثوريين في الجزائر، قد ساهم في إتمام تلك اللقاءات؛ لكن الأهم أن الحكومة السويسرية آنذاك (الاتحاد السويسري) قد ألقت بثقلها خلف جهوده، لتدخل سويسرا رسمياً كوسيط أوروبي ودولي قوي ومقبول بين الجزائريين والفرنسيين. وكان ذلك بحدّ ذاته انتصار لـ فافرو الذي أقنع بلاده بأهمية لعبها لذلك الدور.
وقد ذكر مارك بيرنو وهو مستشار علمي في نشرة الوثائق الدبلوماسية السويسرية قبل فترة، أن مفاوضات واتفاقات إيفيان بين الثوار الجزائريين والمحتل الفرنسي، كانت باكورة عمل: «الحياد النشط، التي بادر بها وزير الخارجية السويسري آنذاك ماكس بوتي بيار، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وأن سويسرا بذلك رغبت في التعبير عن تضامنها مع باقي بلدان العالم، ومحاولة وضع حد للصراعات المسلحة كلما أتيحت لها الفرصة» على حدّ تعبيره.
لم يتوقف عمل فافرو عند ذلك الحد فقط، بل كان مُدوّناً ليوميات مهمة وحصرية مع صور التقطها بنفسه في الأراضي الجزائرية، وهو ما جعله يسعى لتأسيس «جمعية الحفاظ على التراث الجزائري» الأمر الذي ساهم في تقوية وتعزيز الهوية الجزائرية، وتحديداً خلال فترة النضال ضد الاحتلال.
وللعلم لم تكن كلفة عمل هنري فافرو هي نقل الآراء والمساعي المدنية وحسب، بل كان محاطاً بتهديدات حقيقية كادت تُودِي بحياته. فقد نَشَطَت في تلك الفترة جماعات التطرف الفرنسي والتي كانت تُعرَف بـ منظمة الجيش السري (OAS) التي تأسس في مطلع فبراير/ شباط من العام 1961م بقيادة «الجنرالات الأربعة» التي كانت تدعو لتأبيد فرنسية الجزائر. وهو ما جعل حياة فافرو مهددة وهو يقوم بتلك المساعي. وقد اغتيل فعلاً رئيس بلدية إيفيان في تلك الفترة بسبب استضافته تلك المفاوضات.
لذلك كاد هنري أن يُقدِّم حياته في سبيل الجزائر واستقلالها. واستمر ذلك التهديد حتى بعد الـ 18 من مارس/ آذار من العام 1962م وهو تاريخ إبرام الاتفاق، وإلى ما بعد إعلان الاستقلال. هذه الجهود أكسبت الرجل مكانة كبيرة بين الجزائريين، الذين حملوا له التقدير لما بذله من أجلهم، بعكس ألبير كامي والكثير من «المتمنطقين» الذين كانوا يجتهدون لتجريم الضحية وتبرئة الجلاد.
وعلى رغم كل ما فعله هذا الصحافي، فلم يكن مَنَّاناً في عمله تجاه الجزائر؛ بل كان يعتبر ذلك واجباً إنسانياً فَرَضَه الضمير عليه منذ أن زار تلك الأرض المحتلة بعد عامين فقط من اندلاع الحوادث، وهو موقف في غاية التواضع وخفض الجانب. لذلك بقيت وستبقى عبارته الشهيرة التي عَكَس من خلالها روحه وأخلاقه: «أنا مَدِيْنٌ للجزائر؛ فهي التي منحتني الوعي السياسي».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5250 - الجمعة 20 يناير 2017م الموافق 22 ربيع الثاني 1438هـ
حبذا الأخ محمد لو توثق كل المقالات/الإعمدة في كتاب واحد لانها مواضيع دسمة وغنية بالمعلومات والحقائق اضافة الي التحليل والتعليل الرصين وخير الأمور عاجلها
ذكرتني ب هلين توماس التي منع مقالها او عمودها الأخير بسبب انها قالت ان فلسطين ليس بلدكم اخرجوا منها واعيدوها لاهلها وقالت ان اللوبي الإسرائيلي يسطر على اعلامنا والبيت الأبيض هذا الموقف فقط يخلدها في نظري
شكرا اخونا محمد احطت بما احاط به هدهد سليمان وجأت بخبر يقين فشكرا الوسط واسرتها جميعا وابداعاتهم .
دائما نجد التميز والتفرد في ما تكتب