تهدّد الكتابة الصحافية اليومية أو حتى الأسبوعية كثيراً من فضاءات الشعر، بالنسبة إلى أولئك الذين عرفهم الناس شعراء أو شاعرات. ليس بالضرورة أن يكتشف قراؤهم ذلك. الشعراء والشاعرات سيكتشفن مع التوغل في ممارسة العمود اليومي أو لأكثر من مرة في الأسبوع أن الخضوع لنظام عدد الكلمات والمساحة، قيد لا مكان له في الاشتغال على النّص الإبداعي حيث خالق النّص وحده الذي يقرر أن عليه أن يقف عند هذه الحدود التي ربما لا يمكنه أن يقول بعدها شيئاً، دون أن يكون خاضعاً لنظام مساحة، أو نظام يحدّد شكل ومضمون الشعر.
وبقدر ما أن الكتابة اليومية أو لأكثر من مرة في الأسبوع لها تأثيرها الكبير في تنشيط طاقة الكاتب في البحث عن تحول وثراء في قاموسه بحيث لا يكون مُنكشفاً أمام قرّاء لم يعودوا كما كانوا بالأمس، يمكنك أن تلقي إليهم بأي نص فلا يستحضرون كل حواس استشعارهم لاستنطاقه ومساءلته. قارئ اليوم ذكي وخبيث وشرس في أحكامه. خبيث من حيث قدرة تحمّله وصبره مرة ومرتين على استخفافك بإمكانياته، والقفز على ذكائه، لكنه لن يكون ودوداً ولطيفاً ولن ينتظر ما ستكتبه غداً بعد كل محاولة استخفاف تبديها حياله.
هل يعني ذلك أن يكف الشعراء خاصة عن التورط في الكتابة اليومية، أو لأكثر من مرة في الأسبوع؟ لم يقل أحد بذلك ما لم يكن لذلك أثره السلبي على المشروع الأصلي/ الأول. ثم إن ذلك يعتمد على غنى تجربة أي منهم، والقدرة على تسخير أي نمط من أنماط الكتابة لصالح الآخر، بحيث تترسخ جماليات كثيرة في العمود الصحافي من خلال النص/الشعر، وذلك ما يجعله لصيقاً بالإبداع بكل ما في المفهوم من معنى، بكسره الأساليب التقليدية، والأنماط التي باتت مكرّسة منذ عقود، وبلغة هي أقرب إلى العامية منها على الفصحى الدالة والعميقة.
***
لا أحد يريد النسيان برغبته، وفي ظرف طبيعي. يريده كي ينجو. ربما كي يستأنف ما فات من حياته. تنسى الذي لا تريد أن يكون جزءاً من حياتك. حين يتبادر النسيان إلى أي منا يكون ملازماً له - عادة - ما يُوجع القلب، ويُربك العقل، ويجرح العاطفة. لكنه يظل «تدريباً للخيال على احترام الواقع»، كما كتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش ذات تذكُّر، وفي المقولة عمق شديد لن يفطن له إلا الذين ألفوا الممارسة، وصارت جزءاً من امتحان يومي يمكِّن الإنسان من ترتيب أولوياته، وتحصين واقعه كما يجب كي لا يُضطر للجوء إلى النسيان.
***
يتحد صوتي مع صوت الغريب حين لا أجد أحداً رغم الضجيج من حولي. يتحد وجعي بوجع اللاجئ في ندرة الأحضان والقلوب المليئة بالنبْل وما بعد المحبة. يتحد صوتي مع الصمت حين يهوي المعنى. حين تُحاط ببشر من دون آذان، بل من دون حس هو الباعث على الصوت. يتحد صوتي مع الغياب حين لا يكون للحضور سوى معنى آخر للغياب وفي أسوأ مقاماته. يتحد صوتي مع الرؤيا حين أنسجم مع نفسي وأكون في حلْف مع الله. لن يكون غريباً... لاجئاً... لن يهوي معناه... لن يتحد مع الغياب من كان مع الله.
***
تتخلّق من الطين وردة، لكن لن يتخلَّق طين من الوردة. يتخلق منها العطر. وعطر بأجنحة. العطر الذي بلا أجنحة لا أثر يدل عليه. كأنه ليس هنا. حين ينبعث رسولاً في الآفاق فهو يبشر بالوردة، رسولة للمحبة هي. تضعنا أمام حقيقتنا كلما ابتعدنا عن إنسانيتنا وانحزنا للشيطان المؤجل والقابع فينا. لا يلتقي الشيطان والوردة، كذلك الأمر بالنسبة إلى الإنسان حين يتحول إلى شيطان.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 5250 - الجمعة 20 يناير 2017م الموافق 22 ربيع الثاني 1438هـ