في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري تعقد الدورة الثانية من الانتخابات البحرينية. في الأولى كانت المعركة على النسبة. وفي الثانية على ما تبقى من المقاعد. النسبة مهمة في الدورة الثانية إلا أنها ليست حيوية كما كان الأمر في الأولى. فالوجهة العامة حسمت وما تبقى هو التفاصيل. والديمقراطية في النهاية هي وسيلة لاحتواء التفاصيل وليست حلا لها. الحل هو في مكان أوسع له صلة بالزمن والتقدم. ومهما بلغ التقدم في الزمن ستبقى التفاصيل هي الغالبة على اللعبة الانتخابية.
فاز المتنافسون في الدورة الأولى بـ 19 مقعدا وبقي 21 مقعدا للدورة الثانية يتنافس عليها 42 مترشحا. وبعض المتنافسين من الجمعية نفسها أو تربطه علاقات القرابة والمصاهرة. وهذا هو جوهر التنافس حين يصل تعادل القوى إلى حد التلاشي ويبدأ التدافع السلمي بين أكثر الناس قربا سواء على مستوى السياسة أو العائلة أو العشيرة. والتنافس هو الأسلوب الذي ينقل الخلافات الصغيرة (المستورة) والمسكوت عنها إلى العلن.
في لبنان - مثلا - جرت انتخابات فرعية في قضاء المتن الشمالي يونيو/ حزيران الماضي. ومناسبتها رحيل البير مخيبر وهو من كبار رجال البرلمان عن مقعد الروم الارثوذكس. ومن شروط فراغ المقعد النيابي هو اجراء انتخابات في فترة لا تزيد على 40 يوما. المقعد ارثوذكسي والقضاء تسكنه غالبية مسيحية تصل - فعلا - إلى نسبة 99,99 في المئة.
المسلمون غير موجودين في هذا القضاء، وتأثيرهم السياسي على التصويت يعادل الصفر في المئة. فالمعركة ليست بين المسلم والمسيحي، كما هي عادة المنافسات اللبنانية، بل هي حصرا بين المسيحيين. إلا ان الكتلة المسيحية ليست واحدة. المقعد مخصص للارثوذكس، كما هو حال توزيع الحصص، ونسبة عالية من السكان موارنة، وهناك كتلة كبيرة من الأرمن. بدأت معركة حامية بين الكتل الثلاث. ترشح قريب النائب الراحل ليرث عمه بذريعة ان هذا المقعد تقليدي من حصة آل مخيبر. التكتل الماروني المعارض رفض قبول صيغة الأمر الواقع فدعم ترشيح غبريال المر وهو شقيق النائب ميشال المر وعم وزير الداخلية الياس المر. انقسم الاخوة واولاد العم فاعتبر ميشال ان شقيقه غبريال يريد إهانته في عقر داره لانه وافق على ان يلعب لعبة خصومه في القضاء. واجتمعت عائلة المر، أو بعضها، وقررت ترشيح ابنة ميشال: ميرنا. وكانت معركة عائلية تحت شعارات ديمقراطية. لم تقتصر المعركة على انقسامات آل المر والمواجهات الكلامية بين الشقيق وشقيقه والعم وابنة الاخ بل توزعت القوى «العلمانية» و«القومية» و«الليبرالية» و«الاشتراكية» ديمقراطيا بين الشقيقين. فكل حزب تبنى احدهما. الموارنة انقسموا بدورهم والأرمن كذلك. وصلت المعركة الكلامية إلى حد التجريح الشخصي وادخلت سورية و«اسرائيل» على خط الصراع العائلي وكان للسياسة الدولية حظها في معركة صغيرة على مقعد واحد. وانتهت المواجهة بتعادل الاصوات تقريبا فنال كل مرشح عشرات آلاف الاصوات ووصل الفرز إلى صندوق واحد في قرية نائية في المتن الشمالي. وعند فرزه نال غبريال 15 صوتا اكثر من ابنة شقيقه ميرنا. ورفضت الاخيرة النتيجة ورفعت دعوى قضائية بعد اعلان فوز عمها غبريال. وحتى الآن تنتظر القوى حسم القضاء النتيجة النهائية في المعركة الانتخابية. وما يفيدنا هنا من تجربة قضاء المتن الشمالي وغيره هو تأكيد ان الدستور هو الاقوى والضامن لنجاح الديمقراطية. والمسألة الثانية أن الديمقراطية تعني التنافس بين المختلفين ليس فقط بين عائلتين وطائفتين ومذهبين ودينين بل في العائلة والطائفة والمذهب والجمعية والحزب الواحد حين تختفي الألوان المتعددة. فشرط الديمقراطية هو التنافس الذي لا يقتصر على اللونين بل أيضا اللون الواحد. فالانتخابات تقوم على فكرة الاستقطاب وترجيح كفة على أخرى. وغير ذلك من حلول فهو يعود إلى الدولة وتكامل السلطات وتعاونها على وضع الخطط والمشاريع.
الدورة الثانية في الانتخابات البحرينية مهمة جدا. وأهميتها ليست في من ينال ثقة الأكثرية لدخول البرلمان بل أنها تجبّ سلبيات الدورة الأولى التي كادت أن تعطي صفة مناطقية - مذهبية للتنافس بينما المطلوب هو العكس. والعكس أن الثانية ستنقل التنافس من التعارضات الكبيرة إلى انقسامات صغيرة بين أبناء الدائرة الواحدة وربما الجمعية والعائلة نفسها. ومن هنا تبدأ الديمقراطية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 51 - السبت 26 أكتوبر 2002م الموافق 19 شعبان 1423هـ