ربما لم يخطر على بال أحد أن تتوقف صحيفة بوزن صحيفة «السفير» اللبنانية. لكن الواقع كان أكثر عناداً في تأكيد إن ما لم يكن على البال قد وقع فعلاً، وإن صحيفة «السفير» العتيدة قد توقفت نهائياً، وأصبح توقفها من حقائق الانكسار العربي.
أجل... توقفت صحيفة «السفير» - للأسف الشديد - وذلك بعد رحلة تاريخية من العمل الصحافي والفكري والثقافي الملتزم والمتألق. ابتدأت من العام 1974 وانتهت في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2016. رحلة تاريخية امتدت لأكثر من أربعة عقود، عايشت خلالها حوادث وانقلابات تاريخية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية عربية هائلة. لا بل كانت مشاركة بشكل أو بآخر في هذه الحوادث، وفي بعضها كانت صانعة لها.
إن صحيفة «السفير» وعلى رأسها مؤسسها ورئيس تحريرها طلال سلمان لم تكن صحيفة لبنانية فقط، بل كانت صحيفة عربية بامتياز. فهي منذ تأسيسها اتخذت لنفسها شعار «صحيفة لبنان في الوطن العربي...وصحيفة الوطن العربي في لبنان» وكان شعاراً جميلاً وواقعياً وحقيقياً. بمعنى أن مؤسسها أراد لها بقدر ما كانت تمثل لبنان في الساحة العربية، كانت في الوقت نفسه معبرة عن الوطن العربي والحس العروبي القومي بأفقه التقدمي في لبنان. فهي لبنانية حتى العظم، تعكس أوضاعه المتقلبة وآماله وآلامه، وهي عربية حتى النخاع تتبنى قضايا الشعب العربي من المحيط إلى الخليج. وهي بالإضافة إلى هذا وذاك كانت تحمل شعار «صوت من لا صوت لهم» وهذا ما حدث بالضبط خلال مسيرتها. فقد كانت منبراً حقيقياً لصوت الناس المغلوبين، في التعبير عن قضاياهم وتبني مشكلاتهم والدفاع عنها، والتضامن مع أحلامهم وقضاياهم.
وإذا كان الحديث عن «السفير»، الصحيفة، يطول فإن هذا الحديث عنها لا يستقيم من دون الحديث عن مؤسسها ورئيس تحريره طلال سلمان. فهو من مواليد 1938 وعمل في الصحافة وهو في التاسعة عشرة من عمره ابتداءً من 1957 حيث عمل مصححاً لغوياً في مجلة «النضال» ثم مخبراً صحافياً في صحيفة «الشرق» فسكرتيراً في مجلة «الحوادث» كما أسس مجلة «دنيا العرب» في الكويت؛ لكنه سرعان ما عاد إلى بيروت ليعمل ثانية في كل من مجلتي «الحوادث» و «النضال» وفي الأخير يقوم بتأسيس صحيفة «السفير» ليرأس تحريرها ويصبح أحد أعمدة الصحافة العربية.
يضاف إلى ذلك أن شخصية طلال سلمان تمتاز بالثبات على المبدأ وعدم المساومة على المواقف، والعمق في التحليل، لذلك ليس من الغرابة أن يحرص رجالات لبنان على متابعة ما يكتبه طلال سلمان في افتتاحياته «على الطريق» ليبنوا مواقفهم السياسية على ما يطرحه ويستشرفه في مقالاته، وكأنها المرشد لرجالات السياسة من المتفقين معه ومن المختلفين معه على حد سواء. وكذلك فإن مواقفه المبدئية كلفته ثمناً باهظاً، حتى أنه تعرض لمحاولة اغتيال في سنة 1984 لكنه نجا بأعجوبة، كما أن الصحيفة نفسها تم تفجير مكاتبها في العام 1980 أثناء الحرب الأهلية.
وبإدارة طلال سلمان لصحيفته، واتساقاً مع شعاراتها العروبية والقومية، استقطبت السفير مجموعة كبيرة من الكتاب والمثقفين والسياسيين والمفكرين العرب في كل البلدان العربية ومن دون استثناء. فهي صحيفة الوطن العربي في لبنان. استقطبت كتاباً من عيار عصمت سيف الدولة، وإبراهيم عامر، وميشيل كيلو، وبلال الحسن، وسعد الله ونوس، وأحمد الذوادي وعبدالرحمن منيف، وعبدالرحمن النعيمي، ورفت السعيد وهاني فحص وحازم صاغية... الخ.
أما علاقتي على الصعيد الشخصي بالسفير، فقد بدأت بطريقين، أحدهما غير مباشر والآخر مباشر. فعلى صعيد علاقتي غير المباشرة فقد تعرفت على السفير من خلال مكتبة نادي باربار الثقافي والرياضي، وذلك ابتداءً من العام 1976، حين كان النادي يحرص على توفير الصحف والمجلات العربية ذات النفس التقدمي حينها لمكتبة النادي، ومن ضمنها صحيفة «السفير»، وكنت حينها من المداومين على قراءتها بشكل عام مع التركيز على الصفحة الثقافية، ومن هنا بدأت تتوثق علاقتي بـ «السفير»، وباتت تشكل جزءاً من وعيي. واستمرت علاقتي بها منذ ذلك الحين حتى الآن.
أما علاقتي بها بشكل مباشر، فقد بدأت منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، حيث كتبت فيها لأول مرة واستمرت علاقتي بها على هذا المستوى وعلى فترات متقطعة حتى العام 2013. وأنْ تكتب في «السفير»، معنى ذلك أنه أصبح يشار إليك بالبنان؛ لأن «السفير» عندما تفتح صفحاتها لكل العرب، تحرص في الوقت عينه على اختيار الأجود والأحسن فيما بين الكتاب، وليس كل من هب ودب.
ولا أجانب الصواب عندما اعترف أنني شعرت بالقيمة والمكانة والتقدير، عندما وجدت أول مقال لي ينشر فيها ويذيل باسمي جنباً إلى جنب مع كبار الكتاب. كان ذلك في العام 1995. فأنْ تكتب في «السفير» يعني أنك تكتب في صحيفة مرموقة يتمنى كل الكتاب أن يكتبوا فيها.
فـ «السفير» بهذا المعنى هي مدرسة في الصحافة، ومدرسة في الصحافة الملتزمة بقضايا الإنسان والتعبير عنها مهما كانت الكلفة.
بعد أكثر من أربعة عقود من نضال السفير، ورئيس تحريرها من أجل كرامة الإنسان العربي تصل إلى نهاية حزينة، إنْ دلت على شيء فإنما تدل على دخول العرب إلى النفق المظلم، بمعنى أن تتوقف صحيفة بمستوى ووزن صحيفة «السفير»، يعني أن خللاً كبيراً في حياة العرب بحاجة إلى تصحيح. فهي كانت شاهداً على كل الحوادث الجسام التي حدثت للأمة العربية، ولا ينبغي أن تصل إلى هذه النهاية؛ ولكن هذا هو ديدن العرب في مشاريعهم دائماً تصل إلى نهايات حزينة. وصول «السفير» إلى هذه النهاية يعني نهاية الحلم العربي الذي طالما تغنت به أجيال وراء أجيال.
نكتب ذلك ونحن نشعر بحزن عميق على نهاية «السفير»، ولكننا نشعر بالحزن الشديد لطلال سلمان نفسه ذلك أن شخصاً بثقل ووزن طلال سلمان وهو في 79 من عمره وقد قدم كل غالٍ ونفيس، من أجل استمرار هذه الصحيفة، ولم يتمكن من ذلك من الواجب أن نحزن له وعليه، فهو يستحق كل تقدير معنوي ومادي. ولا يجب أن يصل إلى هذه النهاية الحزينة. ولكن الظروف أقوى من طلال سلمان. وأمام هذه الظروف القاهرة، أخيراً، لا يسع طلال سلمان إلا أن يصدر العدد الأخير من السفير بمانشيت وداعي «الوطن بلا سفير» مع صورة كاريكاتورية لرسام الصحيفة الفنان الراحل ناجي العلي مع شخصية المواطن العربي حنظلة.
تحية إلى «السفير»، فهي «تنطفئ ولا تموت» وتحية إلى رئيس تحريرها طلال سلمان الذي سيظل مشرقاً ومنوراً دائماً، وربما يعود بمشروع آخر.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 5247 - الثلثاء 17 يناير 2017م الموافق 19 ربيع الثاني 1438هـ