ترك النهايات مفتوحة في الروايات والأفلام يحفِّز المخيلة ويُشعر المتلقي بامتلاكه لقدرة اختيار مصائر للأشخاص ومآلات للحوادث بحسب فهمه وخلفيته ومزاجه، والأهم من ذلك الشعور بتحكمه بزمام الأمور بما يجعل الحوادث تسير وفق ما يشتهي بلا تدخّل من أحد، ومن دون أن يؤثّر ذلك على أحد.
لكن القصص مفتوحة النهايات في السينما وفي الكتب لا تشبه القصص التي تُترك نهاياتها مفتوحة في الواقع، وخصوصاً إذا ما كانت هذه القصص واسعة على مرمى دول وأبطالها شعوب بأكملها، إلا أن تسارع الحوادث يجبرنا في أحيان كثيرة على ترك حوادث بالغة الأهمية بلا نهاية، نغلق بها القصة في أذهاننا ويأخذنا إلى قصص وحوادث أكثر أهمية، تستحوذ على جلّ اهتمامنا، فتتضاءل أهمية ما سبقها ونعتقد أننا سنعود لها، لكن تجرفنا عنها قصص جديدة، وعن الجديدة تخطفنا حوادث لا تحتمل إلا أن تُمنح الاهتمام كاملاً... وهكذا.
بعض القصص والحوادث تكون حياتية يومية من الطبيعي أن تأخذ مداها في التداول بين الناس ثم تختفي سريعاً، فيما بعض القصص تكون استثنائية الأهمية، وربما الغرابة وأحياناً الخطورة على مختلف الأصعدة وبعضها تحمل في تفاصيلها تنبيهاً بما هو أسوأ، وربما أفضل على وشك الحدوث، بما تنقسم عليه توقعات متداوليها إلا أنها لا تسلم من التراجع في الاهتمام فور بروز ما ينجح في تحويل ذلك الاهتمام عنها.
المجتمعات كالأفراد، فكما أن كل تجربة يمر بها الفرد تضيف إلى سجل خبراته، بعد أن يستكشف قدراته في التعامل معها ويتجنبها تدريجياً في المستقبل إن كانت سيئة، ويستثمرها إن كانت جيدة، فإن المجتمعات أيضاً، كل حدث يمر بها يختبر قدراتها ومؤهلاتها في التعامل معه، وكلما كان الحدث صعباً وشديد التأثير على المجتمع كلما احتاج هذا المجتمع لاستنهاض قوى أفراده، ومخزون ثقافته وتاريخه لتجاوزه وإضافته إلى سجل خبراته، بما يجعله مستعداً في المستقبل لاستيعاب الصعب والتعامل معه والتغلب عليه.
والبحرين كأي بلد آخر تتناوب على ساحتها الحوادث على مختلف الأصعدة؛ لكن خصوصية صغرها نسبياً مساحة وسكاناً، يجعل من الحدث موضوعاً سائداً فيها خلال دقائق من حدوثه، يتناوله الجميع في وسائل التواصل الاجتماعي التي تمتلئ بالرسائل والصور والتأويلات حتى قبل أن ينال نصيبه أيضاً في الإعلام.
المخيف في الأمر أن هذه التأويلات والتحليلات للحوادث التي يتناولها الناس، تجاوزت ردود الفعل العاطفية والنميمة الاجتماعية الاعتيادية، وأصبحت حسابات التواصل ساحة للشتم والتلاسن السياسي والاجتماعي والديني، وكأنما هذه الوسائل التي قرّبت بين الناس من جهة، باعدتهم عندما سمحت بإخفاء الوجوه وراء الشاشات والأسماء المزيفة، وسرّعت في انتشار الأمراض المجتمعية المستجدة، وأشرسها عدم احترام الآخر والاعتقاد بالقدرة على إلغائه. هذه الأمراض إن تركت بلا علاج، فلابد أن تستشري وتتفاقم في الفضاء الإلكتروني والطبيعي أيضاً.
الاتصالات السريعة والمتاحة للجميع، على رغم فائدتها العظيمة لتقريب المسافات، والقيام بدور إعلامي يفوق أحياناً ما تفعله الوسائل التقليدية، إلا أنها أيضاً أتاحت المساحة للجميع أن يقول ما يريد، وينسج ما يشاء من تكهنات أو إشاعات ينقلها وكأنها حقيقة، وما أن يلوح في الأفق الحدث التالي، حتى يتوقف الحديث عن سابقه، وتفتح صفحة تالية للجديد بما يحمل تفاصيل، ويغوص الناس فيه بقدر ملامسته لاهتماماتهم ومعيشتهم. فلا تنال الحوادث المهمة نصيبها الكافي لدراسة دوافعها، وأسباب حدوثها ونتائجها وتأثيراتها على المجتمع، وبالتالي تعلّم الدروس والعمل على وقايته من تكرارها في المستقبل.
تسارع الحوادث الكبير يجعل السير بالموضوع بين أكوام المراسلات، وفرز الحقيقة عما سواها من رسائل وتحليلات وإشاعات صعباً، يزيد عليه انشغال الناس باختلافهم أكثر من الموضوع المُختلف عليه، فتبقى نهايات القصص مفتوحة، وبالتالي لا يمكن الاستفادة منها لتشكيل تجربة متكاملة، تضاف لسجل خبرات المجتمع. وتصبح حدثاً عابراً تجاوزناه من دون أن يترك أثراً في سجل خبرتنا وتجاربنا.
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 5247 - الثلثاء 17 يناير 2017م الموافق 19 ربيع الثاني 1438هـ